لبنان .. أكثر من أزمة فوط صحية

15 يوليو 2021
+ الخط -

فوّت العرب لحظة الربيع العربي، وبناء مجتمعاتٍ على أساس حديث قائم على قيم المواطنة والعدالة والحريات والديمقراطية، وتمكّنت قوى الأمر الواقع وعقيدة الأمن والاستقرار من الانتصار. وقد أعاد الدرس اللبناني الأخير التأكيد على ضرورة الربيع العربي، فهذه المجتمعات غير قادرة على البقاء في ظل نهج الحكم القائم. ولم تعد الدول قادرةً على صرف المسكّنات بعدما فقدت المجتمعات قدرتها على احتمال آلامٍ لا تطاق وسط تبلد الطبقة الحاكمة وغياب حسّها وإحساسها وعقلها. مروّع ما يطفو على سطح لبنان، وفي القاع أكثر. الكبرياء اللبناني الذي كان يقارب النرجسية تلاشى في الإعلام ومنصات التواصل، ليحل مكانه انكسار وانهيار وغضب وسخط. عندما يتصدر وسم #نشفتو_دمنا منصّات التواصل، احتجاجا على "فقر الدورة الشهرية"، فهذا أكثر من جارح، عندما تكتب المرأة علانية وباسمها الحقيقي أنها لم تعد قادرة على شراء الفوط النسائية. وقد أظهرت دراسة أن 76% من نساء لبنان يجدن صعوبة في الحصول على الفوط التي ارتفع سعرها 500%. قبلها شهدنا استغاثات لشراء أدوية أساسية، ووفيات أطفال بسبب غياب الدواء.

ذلك كله وغيره ولم يصحُ اللبنانيون بعد من صدمة انفجار مرفأ بيروت. في الأثناء، نقلت منصّات التواصل احتفال جبران باسيل بعيد ميلاده، وظهر الرئيس يتابع صلوات البابا من أجل لبنان على شاشة تياره، في تعبيرٍ دقيق عن الطبقة السياسية المنفصلة عن الواقع. وهي كلها شريكة في الكارثة التي حلت بلبنان، ومحصّنة من المساءلة، يستوي في ذلك حزب الله وحركة أمل وعون وسعد الحريري وسمير جعجع ووليد جنبلاط وغيرهم.

الربيع العربي يعني تغيير هذه الطبقة، وإبطال ادّعاء الألوهية والعصمة، وتحويلهم إلى بشر عاديين معرّضين للمساءلة وقابلين للاستبدال. عقيدة الأمن والاستقرار والأمر الواقع أوصلت لبنان إلى هذه المرحلة من الإذلال والانكسار التي لا يمكن تخيلها من دون معايشتها، فأنت تحت وقع قصف صامت يشبه الكيميائي، تفقد كل ما تملك في لحظة واحدة، وتستجدي من البنك قليلا من حقك لتتمكّن من العيش، والسارق أمامك يتمتع بالمسروقات. كل ما حصل، سواء في انهيار البنوك أم تفجير المرفأ، لم يؤد إلى محاسبة مسؤول، بمن فيهم محافظ مصرف لبنان.

هذه النتيجة الطبيعية لنظام الإقطاع السياسي، والحاصل في لبنان آجل عربيا في ظل غياب قيم الربيع العربي، فالانتماء على أساس الطائفة هو الذي يصنع زعاماتٍ طائفيةً محصّنةً من المساءلة. وإن غابت المواطنة يمكن أن يحل معها أي انتماء فرعي، سواء لطائفة أم جهة، أم إثنية أم عشيرة. وفي الوقت الذي يحسب المنتمون طائفيا أن طائفتهم قادرة على تأمين احتياجاتهم، يكتشفون بالتجربة القاسية أن الانتماء الطائفي يخدم زعماء الطائفة، لا أبناءها. ولا يمكن لأي طائفةٍ أن تبني وطنا بمعزل عن جميع أبنائه.

تسببت الأزمة في خروج نحو 1500 طبيب من أفضل الأخصائيين في لبنان، وهذا وحده خسارة لا تعوّض، وأضرارها بالغة على الجميع. يتشكّل في لبنان اليوم اقتصاد مافيا قادر على تأمين ما فقد في الأسواق، وقد يستمر البلد بصيغة الحرب الطائفية الصامتة، كما استمر من قبل. ولكن هذا ليس مؤكدا، على الأقل بحسب تصريحات رئيس الوزراء وتقارير دولية كثيرة. ولم يعد العالم العربي معنيا بلبنان، وبعض الدول تراه محمية إيرانية، ويواجه إيران، بصمت، على ساحته.

تضرّرت إيران من الربيع العربي، وحاربته في سورية والعراق واليمن ولبنان. لأنها تريد زعاماتٍ طائفية معتمدة عليها، ولا تريد أوطانا مستقلة قادرة على التعامل معها بندّية. تماما كما تضرّرت إسرائيل التي شكل الربيع العربي تهديدا وجوديا لها. والواقع أن لا حياة للبنان إلا بقيم الربيع العربي، وغيابها هو الذي أفقد الناس أموالهم في البنوك والدواء والغذاء والفوط الصحية، وقبل ذلك أحباء لا يقدّرون بثمن قضوا بانفجار يتحصّن مدبروه بقلعة الطائفية.

83B64D8F-BC3E-45BA-96A2-36C353D769E9
83B64D8F-BC3E-45BA-96A2-36C353D769E9
ياسر أبو هلالة

كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.

ياسر أبو هلالة