الجبهات المفتوحة على إسرائيل وصولاً إلى "العدل الدولية"
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.
لم تخض دولة الاحتلال في تاريخها حرباً بهذا الامتداد والعمق، ظلّت وفية لوصية غولدا مائير خوضها حروباً خاطفة، على أراضي العدو. تدخل الحرب على قطاع غزّة شهرها الرابع، تمتد وتتوسع وتتعمق. من شوارع جباليا وخانيونس ومخيمات الضفة الغربية ومدنها، حيث فوجئت بحجم المقاومة وصلابتها، رغم التضحيات غير المسبوقة، وصولاً إلى باقي الجبهات، الأسخن في الشمال وبعيداً في أقاصي الجنوب على باب المندب وخطوط التجارة العالمية، وشرقاً في القواعد الأميركية في العراق، والجبهة الميّتة في الجولان، والتي فتحت من حيث لم تحتسب إسرائيل... وكانت أقسى رشقة صاروخية في العام الجديد في لاهاي في محكمة العدل الدولية.
بعيداً عن الإعلام، في مكتبه في لندن، كان المحامي جون دوغارد، البالغ 88 عاماً، وهو ليس عربياً ولا مسلماً، ولا أسود، بل أبيض سليل المستعمرين البيض الذين أقاموا نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا يحضّر لضربته، ذخيرتُه موقف أخلاقي صارم، ورصيد علمي حقوقي في أرْقى جامعات العالم، لندن بريكلي، كامبريدج، وأفق سياسي من خلال نضاله السياسي وعمله مع الأمم المتحدة.
بمثابة منصّة صواريخ استراتيجية لدولة الاحتلال، أصدر دوغارد تقريراً إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في فبراير/ شباط 2007، جاء فيه أن "قوانين إسرائيل وممارساتها تشبه بالتأكيد جوانب الفصل العنصري" في الأراضي الفلسطينية. في الوقت نفسه، "تشكّل عناصر الاحتلال أشكالاً من الاستعمار والفصل العنصري، وهي تتعارض مع القانون الدولي". وجد هذا الموقف الأخلاقي سنداً من حكومة جنوب أفريقيا وتبنّته، ولعبت الجالية المسلمة الداعمة للحكومة دوراً مهماً، وأعلنت وزيرة الخارجية عن موقفها في اجتماع حاشد مع الجالية، وهو ما أحرج الدول العربية والمسلمة التي تستطيع رفع القضية.
استنفرت إسرائيل، وخصّصت جلسة مجلس الحرب في الأسبوع الماضي لمناقشة الجبهة الجديدة التي فتحتها جنوب أفريقيا، وتحرّكت سفاراتها ولوبياتها. وعلى طريقة "حافظ ومش فاهم" بادر المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، إلى إنكار التهم، في مؤتمر صحافي وقبل المحاكمة، وهو ذاته الذي لم تبق كذبةٌ لم يردّدها بحق حماس من الاغتصاب إلى قطع رؤوس الأطفال في 7 أكتوبر.
يقول ملفّ جنوب أفريقيا المؤلف من 84 صفحة إن تصرّفات إسرائيل "هي ذات طابع إبادة جماعية، لأنها تهدف إلى تدمير جزء كبير" من الفلسطينيين في غزّة
فضح موقع بولتيكو التطرّف الصهوني لإدارة بايدن، إذ تبيّن أن كل دفاعها المطلق، بحسب الموقع، لم يعتمد على "تقييم رسمي" لمدى التزام حكومة إسرائيل بحقوق الإنسان. وقد دأبت إدارة بايدن على تفادي الاتهامات هذا الأسبوع بشأن تصرّفات إسرائيل في غزّة، قائلة إن حليفتها لا ترتكب أعمال إبادة جماعية، لكنها تعترف أيضاً بأنها "لم تجر أي تقييم رسمي بشأن ما إذا كانت إسرائيل تنتهك القانون الإنساني الدولي". وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية، ماثيو ميلر، الأربعاء، إن الولايات المتحدة لم تشهد أي أعمال إبادة جماعية ترتكبها إسرائيل في غزّة. وعندما سئل ميلر في اليوم التالي عن كيفية توصل الولايات المتحدة إلى هذا القرار، قال إنه لن يناقش المداولات الداخلية أو يتحدّث عن أي عملية رسمية تم إطلاقها. وبعد لحظات، حسب ما يكشف الموقع، قال جون كيربي، ردّاً على سؤال في البيت الأبيض بشأن كيف تعرف الولايات المتحدة ما إذا كانت إسرائيل تلتزم بقوانين الحرب: "لستُ على علم بأي نوع من التقييم الرسمي الذي تجريه حكومة الولايات المتحدة لتحليل مدى امتثال شريكتنا إسرائيل للقانون الدولي".
يقول ملفّ جنوب أفريقيا المؤلف من 84 صفحة إن تصرّفات إسرائيل "هي ذات طابع إبادة جماعية، لأنها تهدف إلى تدمير جزء كبير" من الفلسطينيين في غزّة. ويطلب من محكمة العدل الدولية، المعروفة أيضاً باسم المحكمة العالمية، إصدار سلسلة من الأحكام الملزمة قانوناً. وهي تريد من المحكمة أن تُعلن أن إسرائيل "خرقت وما زالت تنتهك التزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية"، وأن تأمر إسرائيل بوقف الأعمال العدائية في غزّة التي يمكن أن ترقى إلى مستوى انتهاكات الاتفاقية، وتقديم التعويضات، وتوفير إعادة الإعمار لما جرى تدميرُه في غزة. ويجادل الملف بأن أعمال الإبادة الجماعية تشمل قتل الفلسطينيين، والتسبّب في أضرار عقلية وجسدية خطيرة، وتعمّد فرض ظروف تهدف إلى "التسبّب في تدميرهم الجسدي كمجموعة"، وتقول إن تصريحات المسؤولين الإسرائيليين تعبّر عن نية الإبادة الجماعية.
ستكون جبهة لاهاي ضمن الملفّات التي سيبحثها وزير الخارجية الأميركي، توني بلينكن، في جولته في المنطقة
يتضمّن طلب جنوب أفريقيا من المحكمة أن تُصدر بشكل عاجل "تدابير مؤقتة" ملزمة قانوناً لإسرائيل "بتعليق عملياتها العسكرية على الفور في غزّة وضدها". وبحسب صحيفة هآرتس، يتعيّن على إسرائيل في المرحلة الأولى من القضية التعامل مع طلب جنوب أفريقيا بإصدار أمر قضائي يأمر إسرائيل بوقف الحرب في قطاع غزّة على أساس أنها تشكّل إبادة جماعية. ورغم أنه، نظرياً، يمكن تنفيذ مجلس الأمن مثل هذا الأمر، من خلال العقوبات، من المرجّح أن تستخدم أميركا حقّ النقض ضد مثل هذه الخطوة. ومع ذلك "يمكن أن يؤدّي الأمر القضائي إلى نبذ إسرائيل والشركات الإسرائيلية وإخضاعها لعقوبات تفرضها الدول أو الكتل الفردية". وفي الأسبوع الماضي، حذّر المدعي العام العسكري، يفعات تومر يروشالمي، كبار ضباط الجيش من أن هناك خطراً حقيقياً من إصدار محكمة العدل الدولية هذا الأمر القضائي.
ستكون جبهة لاهاي ضمن الملفّات التي سيبحثها وزير الخارجية الأميركي، توني بلينكن، في جولته في المنطقة التي تشمل عدة دول، منها إسرائيل وقطر السعودية، بالإضافة إلى الضفة الغربية المحتلة، وهي محاولة يائسة لاحتواء التصعيد. وقالت وزارة الخارجية "سيناقش الآليات العاجلة لوقف العنف وتهدئة الخطاب وتقليل التوترات الإقليمية، بما في ذلك ردع هجمات الحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر وتجنّب التصعيد في لبنان". ذلك أنه، إضافة إلى جبهات القتال الممتدة من غزّة إلى اليمن ولبنان والعراق وسورية، فتحت جنوب أفريقيا جبهة دبلوماسية في محكمة العدل الدولية، تضع ضغطاً أخلاقياً وسياسياً لا يمكن تجاهله ولا احتواؤه.
بمعزل عن التحذير الأميركي، دخلت المنطقة في حرب إقليمية، لا تزال "غير شاملة"، لكنها بالتأكيد ليست "محدودة"، خصوصاً ما يتعلق بالبحر الأحمر، حيث تمكّن الحوثيون من نقل المعركة إلى مساحة عالمية عبّر عنها بوضوح التحالف الذي شكلته أميركا، ولم تنجح في إدماج دول المنطقة فيه (باستثناء البحرين!). وكشف موقع بوليتيكو تفصيلاً للارتباك الأميركي تجاه ما جرى وتجاه التصعيد المتوقع حيث "يخطط مسؤولو إدارة بايدن للرد على احتمال تصاعد الحرب في غزّة إلى صراع إقليمي مستمرّ وأوسع". ووصف أربعة مسؤولين مطلعين على المناقشات، بما في ذلك مسؤول كبير في الإدارة، المحادثات الداخلية بشأن السيناريوهات التي يمكن أن "تجرّ الولايات المتحدة إلى عمق أكبر في ساحة الشرق الأوسط"، بدءاً من اليمن حيث يخطّط الجيش لضرب الحوثيين المدعومين من إيران، وهذا يشمل ضرب أهداف الحوثيين في اليمن نفسه، وصولاً إلى العراق، حيث يفكر مسؤولون آخرون في طرق استباق (وصد) الهجمات المحتملة على الولايات المتحدة من القوات المدعومة من إيران في العراق وسورية، ويعملون على تحديد المكان الذي قد يهاجم فيه الحوثيون بعد ذلك.
استنفرت إسرائيل، وخصّصت جلسة مجلس الحرب في الأسبوع الماضي لمناقشة الجبهة الجديدة التي فتحتها جنوب أفريقيا، وتحرّكت سفاراتها ولوبياتها
على جبهة لبنان، أفادت صحيفة الأخبار البيروتية، المقرّبة من حزب الله، أن مبعوث الإدارة الأميركية، عاموس هوكشتاين، أجرى اتصالاتٍ مع مسؤولين لبنانيين يتواصلون مع حزب الله بشأن إمكانية وساطةٍ غير مباشرة تهدف إلى إحداث "تغيير نوعي" في الوضع على الحدود اللبنانية. وبحسب الصحيفة، الجواب الذي سمعه المسؤول الأميركي أنه "لا معنى لأية وساطة من هذا القبيل طالما أن الحرب في غزّة مستمرّة وحزب الله لا ينوي تهدئة مخاوف إسرائيل على الجبهة الشمالية". في الوقت نفسه، يقول نائب رئيس المجلس التنفيذي لحزب الله إن إسرائيل حاولت من خلال هجوم الضاحية الجنوبية واغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صالح العاروري، تغيير المعادلات القائمة وفرض واقع جديد، لكن هذا لن يحدث. حزب الله لن يسمح له بخرق المعادلات القائمة، ولن يمنعه شيء من حماية لبنان وردع إسرائيل عن ارتكاب المزيد من الجرائم".
تبدو جبهة اليمن الأسخن والأكثر تأثيراً على التجارة العالمية والأصعب مواجهة، من ذلك أن الحوثيين استخدموا، أخيراً، تكتيكات غير مسبوقة "انتحارية" (طائرة بدون طيار)، على ما أفاد نائب الأدميرال براد كوبر، المسؤول عن أنشطة البحرية الأميركية في الشرق الأوسط. وجاء في التقرير ذاته أن العبوة الناسفة انفجرت على بعد أميال قليلة من سفن البحرية الأميركية والسفن التجارية.
... وفي العراق وسورية، حيث قواعد الجيش الأميركي، ليس الوضع أحسن بكثير، منذ 7 أكتوبر، شنّت المليشيات الموالية لإيران أكثر من مائة هجوم ضد القوات الأميركية في سورية والعراق، ونفذت الولايات المتحدة عدّة ضربات انتقامية. وقالت إدارة بايدن أيضاً إنها ستتصرّف بقوة لحماية الشعب الأميركي والمصالح الأميركية، لكنها أكدت أنها حذرة من إحداث وضعٍ من شأنه أن يجر الولايات المتحدة إلى الأزمة الإقليمية بشكل أكبر.
يحارب بايدن على جبهتي الحزب الديمقراطي، حيث يوقف الشباب والتيار التقدّم ضده بسبب موقفه من غزّة، وترامب الذي يتقدّم عليه في استطلاعات الرأي
ومع استمرار اشتداد القتال في غزّة، أصبحت الولايات المتحدة أكثر انخراطاً على نحو متزايد، عسكرياً ودبلوماسياً، في ثلاث بؤر ساخنة أخرى في الشرق الأوسط، مع تزايد المخاوف من أن التوترات المتصاعدة "قد تتحوّل إلى حربٍ أكبر كثيراً"، حسب باراك رافيد، وثيق الصلة بالدوائر الأمنية والعسكرية الاسرائيلية والأميركية. ويضيف: "كان أحد الأهداف الرئيسية لإدارة بايدن منذ هجوم 7 أكتوبر منع امتداد القتال في غزّة إلى أجزاء أخرى من المنطقة، ومع مرور الوقت، أصبح تحقيق ذلك أكثر صعوبة".
الخلاصة، بلينكن عاجز عن احتواء التصعيد، لا يستطيع الضغط على إسرائيل، ولا الضغط على "حماس"، وإسرائيل لا تحتمل كلفة جبهة مع لبنان، فقد بلغت تكلفة الحرب في غزّة حتى الأسبوع الحالي (20.5 مليار دولار). أحد أسباب ارتفاع التكاليف إلى ما هو أبعد بكثير من التوقعات أن الجيش الإسرائيلي ووزارة الدفاع لم يستعدّا قط لحرب تدوم كل هذه المدة مع مثل هذا الاستخدام المكثف للذخائر، فمدّة الحرب أطول بثلاثة أضعاف من السيناريو الرئيسي الذي نشر الجيش من أجله. واعتمدت إسرائيل على مساعدات أميركية واسعة النطاق (وصلت على شكل أكثر من 250 طائرة نقل وشحن وأكثر من 20 سفينة) للتعويض عن العتاد الذي استخدمته في غزّة، بينما تستعد لصراع أوسع محتمل في لبنان.
ويحارب بايدن على جبهتي الحزب الديمقراطي، حيث يوقف الشباب والتيار التقدّم ضده بسبب موقفه من غزّة، وترامب الذي يتقدّم عليه في استطلاعات الرأي. وفي الولايات المتأرجحة، يميل الناخبون المؤيدون للقضية الفلسطينية، وأصواتهم حاسمة، إلى التصويت العقابي ضد بايدن.
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.