01 نوفمبر 2024
"لا صلاة تحت الحراب"
سمّى الشيخ عبد الحميد السائح (1907 – 2001) كتاب مذكّراته "فلسطين.. لا صلاة تحت الحراب" (مؤسّسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1994). وتستثير هبّة الفلسطينيين، وفي طليعتهم المقدسيون، منذ أيام، ضد حراب المحتل الإسرائيلي وبوّاباته الإلكترونية وكاميراته في المسجد الأقصى، عودةً إلى قراءة الكتاب، وهو ما طاب لصاحب هذه الكلمات أخيرا، ربما فقط لمطابقة عنوان الكتاب مع ما يصنعه الفلسطينيون بالضبط في هذه الأيام، وأيضا رغبةً بمعرفةٍ متجدّدة بسيرة الشيخ الجليل صاحب المذكّرات، وهو أول الفلسطينيين الذين أبعدتهم سلطات الاحتلال من وطنهم، وذلك بعد نحو شهرين من حرب يونيو/ حزيران 1967، وكان في الأثناء رئيس محكمة الاستئناف الشرعية في القدس. وتتوفر المذكّرات (158 صفحة) على سيرة صاحبها، العلمية والسياسية والكفاحية، والشخصية طبعا، منذ ما قبل تخرّجه بشهادتي العالمية من الأزهر والتخصّص من مدرسة القضاء الشرعي في القاهرة في العام 1927، وصولا إلى استقالته من رئاسة المجلس الوطني الفلسطيني في منظمة التحرير في 1996، مروراً بمواقعه قاضيا شرعيا وسكرتيرا للمجلس الإسلامي الأعلى، وتالياً وزيرًا للأوقاف في الحكومة الأردنية. وفي استعراض هذا كله، يلحّ على قارئ الكتاب أن قضية عدم الصلاة في الأقصى مع استباحة جنود المحتلين ساحاته بسلاحهم غير مركزيةٍ تماما في مسار السيرة، فيما هي العنوان البالغ الجاذبيّة للمذكّرات، وترد الواقعة المتصلة بهذه القضية في أقلّ من صفحتين.
تنحلّ هذه المسألة في شأن الكتاب لدى قارئه، إذا ما وقع على الجوهريّ الأعمق فيه، أو بالأحرى في سيرة الشيخ عبد الحميد السائح، وهو أن قاضياً شرعياً وفقيهاً وعالمًا في شرع الله يلحّ على أولوية جلاء الجيش المحتل عن الأقصى على أداء الصلاة في هذا المسجد المبارك، الأمر الموصول بداهةً بالذي دأب عليه الراحل، في حماية سجلات الفلسطينيين، والمقدسيين منهم، وأملاكهم، وأوقافهم، من العبث الإسرائيلي، ومن التصرّف فيها، ما يتصل أساساً بالروح الكفاحية التي أقام عليها الشيخ السائح في مناهضة المحتل، والتصدّي لخططه وتدبيراته في القدس، وعموم فلسطين، وقد كان رحمه الله من رفاق الحاج أمين الحسيني، وممن شاركوا في فتيا علماء الدين الإسلامي والمفتين والخطباء والأئمة والوعاظ تحريم بيع الأرض لليهود، في اجتماع نحو خمسمائة منهم في القدس في يناير/ كانون الأول 1935.
أما واقعة "لا صلاة تحت الحراب" فموجزها أنه في يوم 8 يونيو/ حزيران 1967، (وكان يوم خميس)، أي غداة الاحتلال العسكري الإسرائيلي للقدس، فإن قيادياً إسرائيليا عسكريا طلب من الشيخ السائح، في اجتماع ضم أيضا فاعليات روحية إسلامية، منهم مفتي القدس، الشيخ سعد الدين العلمي، ومدير أوقاف القدس، حسن طهبوب، أن يدعو الناس في يوم الجمعة التالي إلى صلاة الجمعة، "حتى تعود المياه إلى مجاريها"، فكان رد الشيخ: لا تجوز عندنا الصلاة تحت الحراب، ولن أدعو الناس إلى الصلاة ما دام جنودكم في أرض الحرم... ويكتب السائح إنه رد على سؤال من سأله، بعد ذلك، بشأن ما فعل، وموقفه الذي أصرّ عليه، والذي دفع المحتلين إلى إخراج الجيش من الحرم القدسي: أريد أن نعاملهم بهذا الوضوح من أول يوم.
ثمّة وقائع وتفاصيل أخرى في صفحات الكتاب الشائق، والمفيد أن يُضاء عليه أكثر، ويُعاد نشره إن أمكن، تقرأها فيما تتابع، من مطرحك البعيد، الجاري في بيت المقدس وأكنافه، وأحوال القدس وناسها، فيتيّقن لديك، للمرة المليون على الأقل، أن كفاح الفلسطينيين الراهن في وطنهم، وفي مختلف انتفاضاتهم، في القدس وغيرها، موصولٌ بجولات صراعٍ مع الإسرائيلي، سارق الأرض، المستقوي على أصحابها بالسلاح وصلف التجبر والاستعداء، غير أن مواجهته بإرادةٍ صلبة، وبوحدة متحقّقة، وبمثابرة ودأبٍ لا يضعفان، تنفع في إحباط عمله من أجل فرض قراراته الهوجاء. وجولة الأقصى في الأسبوعين الماضيين واحدة من محطّات كفاح فلسطيني مديد، ساهم في أطوار منه مجاهدٌ عالم، اسمه الشيخ عبد الحميد السائح، كانت له وقفات ووقفات، كان منها أنه أكّد ثبات فلسطين، عقودا وعقودا، على أنه "لا صلاة تحت الحراب".. رحمه الله.