لئيم وساذج ومأفون احتفوا بالزلزال

13 فبراير 2023

(وليم دي كونينغ)

+ الخط -

ليس هناك أدنى شكّ في أن مئات الملايين من الناس، في كل مكان ومن شتّى الجنسيات، قد أصابهم الذهول، ومسّ شغاف قلوبهم الجزع، جرّاء ما نتج عن زلزال القرن من فواجع بشرية فاقت الخيال، وخسائر مادية لا حصر لها بعد، الأمر الذي أحدَث حالة تعاطفٍ شاملةٍ مع الضحايا والمصابين، وأوجد تضامناً أممياً عزّ نظيرُه حيال المكلومين، وهم بالملايين، سيما وأن هذه الكارثة وقعت في عصر الصورة الرقمية، والبثّ الفضائي المفتوح، الذي أتاح للمتلقّين مشاهدة تفاصيل التفاصيل، لحظة بلحظة، عمّا جرى للأطفال والنساء والرجال، الناجين منهم والمسحوقين تحت الرّكام. في غمرة المشهد الممتد من جنوب تركيا إلى شمال غرب سورية، وفيما كان الوجع يفعل فعله في القلوب المفطورة على العطف، خرج علينا، إلى جانب اللصوص، ثلاثة أصنافٍ من البشر، أو إذا شئت قل من المحسوبين على بني البشر، على هيئة ثلاثة عابثين فوق الركام، يتضاحكون سرّاً من وراء اللثام، جذلين وسط الخراب، يهذرون بما لا يعرفون، يتقوّلون بما تفيض به نفوسُهم السقيمة من تخيّلاتٍ مريضةٍ وتأويلاتٍ عجيبة لهذا الحدث الجيولوجي الرهيب، بعضُهم يمكن وضعه في خانة الساذجين، وبعضُهم الآخر في قائمة الساديين اللئام، والبعض الثالث من صنف المأفونين المسكونين بنظرية المؤامرة الكونية.
الساذجون وهم "دُعاة" الجهل بالعلوم، اهتبلوا الكارثة هذه، كي يردّوا حركة الطبقات التكتونية إلى عدالة السماء وغضبها على المذنبين في الأرض. ولا أودّ الاستفاضة في هذا الهامش الحسّاس، حيث سأكتفي بما نشرته ابنتي صبا عيسى على حائطها في جمهورية فيسبوك، كون تعليقها الموجز يماثل وجهة نظري ويعبّر، على الأرجح، عن آراء أغلبية الناس، إذ كتبت "استحضار آيات العذاب في الحديث عن مأساة الزّلزال، وتقريع المكلومين بأنّ ما جرى لهم نتيجة ذنوبهم ومعاصيهم، والحديث عن عقاب الله تعالى للنّاس بخسفهم، والنّاس هائمون على وجوههم في الثّلج والبرد، وقلوبهم متخلعة، يحفرون الأرض بأظافرهم لعلّ قريبًا أو حبيبًا يخرج حيًّا؛ كلّ هذا الوعظ البارد في هذا الوقت، هو جمعٌ بين الجهلِ وقلّة الذّوق، امسحوا جراح القلوب المنكسرة بكلمة مواساة دافئة، وعبارة حبّ صادق، واستحضروا معاني رحمة الله تعالى للمفقودين والمنكوبين، واستحضروا أيضاً أحاديث الصّبر ومعاني الشّهادة، وخفّفوا المُصاب باستنفار الطاقات لاستنقاذ الغائبين تحت الركام؛ وإلّا فأعيرونا سكوتَكم يرحمنا ويرحمكم الله".
أما الساديون اللئام فهم أولئك الذين راحوا يبثّون الرعب في القلوب، وينشرون بين العامّة تكهّنات مُفزعة عما يترصّد بنا من أهوال (أقلّها أن الأرض ستبتلع من عليها) طالبين منا عبر الشبكة العنكبوتية النوم بالملابس الثقيلة، حزم الحقائب، وحمل ما غلا ثمنُه وخفّ وزنه، والبقاء في حالة الاستعداد التام للفرار عند عتبة الدار، وكأن ذوي النفوس المفعمة بالكراهية والغلّ هؤلاء، يعلمون فوق ما يعلم أهل العلم، حيث أخذوا يُنذرون بالويل والثبور، يبشّرون بدنو يوم القيامة، الأمر الذي زاد من ترويع أصحاب العقول الصغيرة، وأوهن عزيمة ذوي القلوب الضعيفة، ولولا الشروحات الكثيفة التي قدّمها خبراء الجيولوجيا على مختلف الشاشات، بما في ذلك أن أسوأ ما في هذا الزلزال قد بات خلفنا، لتوقف سير الحياة الاعتيادية في عموم الجغرافيا المحاذية لمركز الهزّة الأرضية.
الصنف الثالث من هذه الجوقة الناعقة بالخراب أدهى وأمرّ من سابقيها، ونعني بهم المأفونين، سادة نظرية المؤامرة، من يعتقدون جازمين أن كل أمر في هذا الكون من فعل فاعلٍ معروف، إما من الولايات المتحدة أو إسرائيل، اللتين وضعتا، إحداهما على الأقل، قنبلةً ارتجاجيةً في باطن الطبقات تحت الأرضية في تركيا، للنيْل من هذه الدولة الإسلامية الناجحة، وبالتبعية من نظام الأسد الممانع، وهو ما يعيد إلى الذاكرة التخاريف التي راجت عن فيروس كورونا قبل نحو عامين (حرب بيولوجية بين أميركا والصين). وحدّث ولا حرج عما تلاها من خزعبلاتٍ عن المطاعيم المضادّة لذلك الوباء، حيث زعم أولئك الزاعمون إن هناك مؤامرة كونية، هدفها التخلّص من كبار السن، وإن من يأخذ المطعوم سيموت بعد سنتين، بل وإن أغنى أغنياء العالم، بيل غيتس، متورّط في هذا الأمر لسببٍ غير معلوم.
ولعل من حسن الحظ، وهو قليلٌ على أي حال، أن المكلومين في المدن المنكوبة، فضلاً عن ذوي ضحايا الزلزال، لم يكن لديهم متّسع من الوقت، ولا أدوات الاتصال الإلكترونية، لمتابعة مثل هذه السخافات.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي