كي تصبح فلسطين قضيةً في "الجنائية الدولية"
مضى أزيد من اثني عشر عاما على وضع ملف فلسطين في رفوف المحكمة الجنائية الدولية، وما زال يُصنَّف بـ "الحالة"، ولن يصبح "قضية" حتى تَصْدُر مذكرات توقيف أو أوامر بالحضور بحق متهمين إسرائيليين وفلسطينيين. أخضع الادّعاء العام بالمحكمة الطلب الفلسطيني من أجل التحقيق في جرائم إسرائيل لدراستين تمهيديتين، دامتا أزيد من ثماني سنوات، ثم أعلنت المدّعية العامة في المحكمة، فاتو بنسودا، في نهاية 2019، استيفاء جميع الشروط لفتح تحقيق، لكنها طلبت حكما قضائيا أكّد، بعد أزيد من عام، أن اختصاص المحكمة يشمل الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، كما أكّد أن قراره هذا قابِل للمراجعة إذا ما تمت إثارته مجدّدا.
لماذا كل هذا الشد والجذب والمماطلة؟ وهل حقا شرعت بنسودا بالتحقيق؟ وهل المحكمة مستقلة وقادرة على تحقيق العدالة الدولية في فلسطين؟ ولماذا يسود الصمت حول خطر ملاحقة المحكمة لشخصيات فلسطينية بتهم جرائم حرب؟ أسئلة يفرضها عامل الوقت الذي أضاعته المحكمة على الفلسطينيين، مثلما أضاعه عليهم الجميع في زمن الاحتلال.
لو لم يكن العالم مشغولا في سبتمبر/ أيلول 2020 الماضي بأخبار الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، لتَصَدَّرت فضائح محكمة لاهاي عناوين الصحافة الدولية، عند صدور ثاني أهم تقرير للقاضي الجنوب أفريقي البارز، ريتشارد غولدستون، الذي اقترن اسمه بتقريره الأول عن الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2009. في نهاية 2019، ترأس غولدستون فريقا ضم ثمانية خبراء دوليين حققوا عشرة أشهر في تفاصيل أداء كل أجهزة المحكمة الرئيسية وكفاءتها وفاعليتها، وجاء تقريره عن "استعراض نظام المحكمة الجنائية الدولية ونظام روما الأساسي" صادما بكل المقاييس، فاضحا اختلالاتٍ عدة على جميع المستويات، تكرّسها ثغرات نظام روما الأساسي والتباساته وتناقضاته، المعاهدة التي أُنشئت بموجبها المحكمة في مدينة لاهاي الهولندية.
أوصى تقرير غولدستون بألا تستمر الدراسات التمهيدية أكثر من سنتين، حتى لا تحول دون مباشرة التحقيق خارج المحكمة، وتؤخر عملية جمع الأدلة على الأرض
أوضح التقرير استغلال مكتب الادّعاء ثغرة في نص المعاهدة التي لا تحدّد سقفا زمنيا للدراسات الأولية، فحطم المدعي العام السابق للمحكمة الجنائية الدولية، لويس أوكامبو، الرقم القياسي لأقصر دراسة بفتحه تحقيقا في ليبيا في غضون خمسة أيام، وحطّمت بنسودا أطولها بإبقائها ملف كولومبيا في حالة فحص تمهيدي تسع سنوات. وأوصى تقرير غولدستون بألا تستمر الدراسات التمهيدية أكثر من سنتين، حتى لا تحول دون مباشرة التحقيق خارج المحكمة، وتؤخر عملية جمع الأدلة على الأرض. وأشار إلى أن بعض الأدلة تتضرّر جرّاء عامل الوقت، بما في ذلك السجلات المصرفية وسجلات الاتصالات والإنترنت التي عادة ما يحذفها مقدّمو الخدمات بعد بضع سنوات. وأضاف التقرير إن الأدلة المستقاة من شهادة الشهود تتدهور بدورها مع مرور الوقت، وتتدهور معها ذاكرة الأحداث. أبان الخبراء عن مدى افتقاد مكتب المدّعي العام الشفافية في انتقاء القضايا وتدبيرها، وغياب معايير موضوعية عند فتح الدراسات التمهيدية وغلقها، وتحديد الأولويات بشأنها، وانتقد ضعف مستوى التحقيق وأخطاء المرافعة، ما يفسر أن 38% من اتهامات الادعاء فقط تم تأكيدها خلال إجراءات ما قبل المحاكمة. وبعد أن عرّى مواضع الخلل بالمحكمة، أوصى الفريق بضرورة إخضاع عمل مكتب المدّعي العام وإدارة أنشطة العدالة في دوائر المحكمة لِلَجْنَة مراجعة قضائية، وفاق عدد توصياته الـ 384، عدد صفحات التقرير الـ 348.
مرّ تقرير غولدستون الثاني مرور الكرام، في ظل العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب على كبار موظفي المحكمة، وإعجاب كثيرين بتحدّي بنسودا كلا من أميركا وروسيا وإسرائيل، وإصرارها على فتح تحقيقات في جرائمهم في أفغانستان وجورجيا وفلسطين. ولكن الحديث عن فتح تحقيق في الجرائم التي ارتُكبت في فلسطين وصفٌ غير دقيق، فبعد الفحص التمهيدي المطوّل، دخل ملف فلسطين مرحلة "الشروع في التحقيق"، حسب تعبير بنسودا الذي يُحيل إلى عنوان المادة 53 من نظام روما. وبعبارة أدق، دخل مرحلة التحقّق من مقبولية الدّعوى في إطار مبدأ التكامل، الحجر الأساس للمعاهدة. ذلك أن الجنائية الدولية مكمّلة فقط للمحاكم الوطنية، وليست بديلاً عنها، فهي لا تحقّق ولا تقاضي إلا عندما تكون السلطات الوطنية غير راغبة في التحقيق والمقاضاة، أو غير قادرة على ذلك. وعملا بهذا المبدأ، لا تُعتبر الدعوى مقبولةً إطلاقا في لاهاي، إذا كانت السلطات الوطنية قد حققت أو بصدد التحقيق في المزاعم نفسها.
من المتوقع أن تتنازل فلسطين لمكتب بنسودا، عن ممارسة حقّها وصلاحياتها في مقاضاة رعاياها الفلسطينيين، ما دامت لم تحقق في هذه الدعوى
وخطوة أولى في عملية الشروع في التحقيق، بعثت الجنائية الدولية يوم 9 مارس/ آذار الجاري إلى فلسطين وإسرائيل إشعارا يُعرف بـ "طلب التنازل"، لتحديد الجهة التي ستباشر التحقيق ومقاضاة جرائم يشتبه أن الجيش الإسرائيلي والسلطات الإسرائيلية ارتكباها في فلسطين من جهة، وحركة حماس ومجموعات فلسطينية مسلحة أخرى من جهة ثانية. ومع نهاية أول أسبوع من إبريل/ نيسان المقبل، على كل طرف إبلاغ المحكمة رسميا بوضع قضائه تجاه الدعوى نفسها، فإذا أبلغتها إسرائيل أو فلسطين أنها أجرت أو ستجري التحقيقات مع رعاياها أو غيـرهم في المزاعم ذاتها، تتنازل بنسودا للدولة المعنية عن التحقيق، مع إخضاعها لتقييم دوري للتحقق من حقيقة مزاعمها، ويحقّ لمكتب المدعي العام إعادة النظر في هذا التنازل لاحقا، إن اتضح أن الدولة أصبحت غير قادرة على القيام بالتحقيق.
من المتوقع أن تتنازل فلسطين لمكتب بنسودا، عن ممارسة حقّها وصلاحياتها في مقاضاة رعاياها الفلسطينيين، ما دامت لم تحقق في هذه الدعوى، وقد لا تحقق فيها مستقبلا لاعتبارات سياسية أو لضعف القدرات القضائية، أو الاثنين معا. وفي هذا الموقف مجازفة بالقضية ذاتها التي قد تتضرّر جراء ملاحقة شخصيات فلسطينية بتهم جرائم حرب، تشمل الهجمات المتعمّدة على المدنيين عبر إطلاق صواريخ عشوائية ضد المدنيين الإسرائيليين، واستخدام المدنيين دروعا بشرية في أوقات القتال، فضلا عن القتل العمد والمعاملات اللاإنسانية. ولا بد أن يستغرب المرء ترحيب قادة "حماس" واحتفاءهم بقرار فتح التحقيق، وكأنهم غير معنيين بتهم خطيرة تخدم ادّعاءات إسرائيل أن الفلسطينيين يحرّضون على العنف، ما يضطرّها إلى استخدام "القوة غير المتناسبة" من حين إلى آخر. إصرار بعضهم على أنه ليس لديهم ما يخشونه من محكمة لاهاي في ظل شرعية المقاومة، فيه تجاهلٌ لضوابط هذه الشرعية التي يحكمها القانون الإنساني الدولي المطبّق على القتال، والذي يعتبر استهداف المدنيين أو تعريض حياتهم للخطر جريمة حرب.
تقود إسرائيل حربا على جميع الجبهات، لحماية جيشها وقادتها من خطر المساءلة الذي تواجهه لأول مرة في تاريخها الاستعماري
ولو اتحد الفلسطينيون، طوال السنوات الأخيرة، وعملوا على بناء منظومة قضائية موحدة، وترسانة قانونية تخوّل لهم النظر في الجرائم التي تدخل في اختصاص الجنائية الدولية، لضمنوا حقّ مقاضاة أبناء شعبهم بأنفسهم، بدل تسليمهم لمحكمة خاضعة لسلطة مجلس الأمن، قد تحوّلهم إلى المتهم الأول في القضية. انقسام الصف الفلسطيني يحرمه من حرية المناورة القضائية التي تحرص عليها حكومة أفغانستان، بعد أن رفضت التنازل، وأبت إلاّ أن تُقاضِي مواطنيها في محاكمها، على الرغم من هشاشة مؤسساتها. ويبدو أن هذه القضايا غير مطروحة للنقاش، علنيا على الأقل، لفرط تركيز الجانب الفلسطيني على جرائم إسرائيل، مع أن تقرير بنسودا الصادر بتاريخ 22 يناير/ كانون الثاني 2020 (ICC-01/18-12)، أوضح، في الفقرة 99، أنه لا يتعين على المدّعي العام النظر في أحداث معيّنة، بل في الحالة في فلسطين بمجملها، بمعنى أن جرائم الاحتلال ستقابلها جرائم ضحايا الاحتلال. وتتّضح أكثر محاولة الموازاة بين التهم الموجهة للطرفين، في استبعاد إدراج جرائم إسرائيل في نطاق أوسع يشمل الجرائم ضد الإنسانية وجرائم العدوان وجرائم أخرى قد ترقى إلى الإبادة، إذا ما وُضعت في سياقها التاريخي والتراكمي. إبقاء الطرفين في نطاق جرائم الحرب فيه تغليب لسردية النزاع التي تخدم إسرائيل، على حساب سردية الاحتلال التي توضح مظلومية الفلسطينيين. والأخطر أن التهم المنسوبة لحركة حماس قد يسهل إثباتها بتعاونٍ مع إسرائيل، في حين أن جرائم الجيش الاسرائيلي سيصعب التحقيق فيها. هكذا حاولت بنسودا الاتسام بـ "الموضوعية" لتحمي المحكمة من شر تهمة المعاداة للسامية التي ستلاحقها طوال تناولها هذا الملف.
وتقود إسرائيل حربا على جميع الجبهات، لحماية جيشها وقادتها من خطر المساءلة الذي تواجهه لأول مرة في تاريخها الاستعماري. وفي ظل موقفها الرسمي الحالي الرافض اختصاص المحكمة، بحجة أنها ليست طرفا فيها، وأن فلسطين ليست دولة، يُستبعد أن تطلب السلطات الاسرائيلية من بنسودا التنازل لها عن مباشرة الدعوى، لأن في اعترافٍ كهذا باختصاص المحكمة يُخضعها لمراجعة دورية ستُظهر حتما أنها لا تستطيع النظر في فظائع تهجير واستيطان لا تجرّمها قوانينها، بل تكرّسها سياساتها، وسينتهي بها الأمر إلى إجبار مكتب المدّعي العام بالجنائية الدولية مباشرة التحقيق في جرائمها، ومقاضاة مجرميها. ولأن هذا السيناريو يضمن الحد الأدنى من العدالة الدولية، ستعمل على تعطيله على الأرض، ولن تسمح للمحققين ولوج مسارح جرائمها ليجمعوا أدلةً تدينها، وتنتهي بمذكرات قبض على كبار مجرميها.
لا تخشى إسرائيل صواريخ القسّام بقدر ما تسْعد بها، بذريعتها المفضّلة لارتكاب الفظائع، وتكريس صورة مظلوميتها
وتحظى إسرائيل بتواطؤ إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، التي أبقت على العقوبات ضد موظفي المحكمة، استجابة لطلبها، وقد تلجأ إلى تفعيل البند 16 من معاهدة روما الذي يمنح مجلس الأمن سلطة إرجاء التحقيق والمقاضاة في الجنائية الدولية مدة عام قابلة للتجديد. ولأن "محكمة الملاذ الأخير" مسيّسة بالأساس، فلم تقطع الحبل السريري الذي يربطها بمجلس الأمن الذي يملك الحق في أن يُحيل إليها من يريد، ويعطّل تحقيقها متى قرّر وجود تهديدٍ للسلم والأمن الدوليين، بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وبموافقة تسعة أعضاء من دون استخدام حق النقض. وقد استخدم المجلس البند 16 في القرارين 1422 و1487 لمنح حصانةٍ من الملاحقة القضائية لقوات حفظ السلام الأممية من بلدانٍ لم تكن طرفًا في نظام روما، وفي مقدمتها أميركا وروسيا والصين. قد يكون اللجوء لمجلس الأمن آخر ورقة حمراء بيد أميركا، إن قرّر خَلَف بنسودا، البريطاني كريم خان، الشروع الفعلي في التحقيقات المتعلقة بملف فلسطين.
خلال الشهور المقبلة، قد تخوض فلسطين معركة قانونية لم تخض مثلها من قبل؛ معركة نجحت في تعليق قرار إسرائيل ضم غور الأردن وأجزاء أخرى من الضفة الغربية، وأعادت القضية إلى الأجندة الدولية، فعادت واشنطن تتحدث عن عملية السلام وطاولة المفاوضات وحل الدولتين، وغيرها من المناورات المعتادة، لمساعدة إسرائيل على ربح مزيد من الوقت كي تبتلع ما تبقى من الأرض، وتتحرّر من الشعب الفلسطيني بدل أن يتحرّر منها، وتصبح فلسطين الدولة فكرة مُجَرَّدة. في الأسابيع والشهور المقبلة، قد يبتكر حلفاء إسرائيل مناورات سياسية جديدة لإزاحة الحل القانوني، وتفادي الحديث عن أطول احتلال في العصر الحديث، عن قرن من الاحتفاء الغربي بترسانةٍ من القوانين الدولية الإنسانية التي تجرم الاحتلال وضم الأراضي بالقوة إلا عندما يتعلق الأمر بالمشروع الاجتثاتي في فلسطين.
لا تخشى إسرائيل صواريخ القسّام بقدر ما تسْعد بها، بذريعتها المفضّلة لارتكاب الفظائع، وتكريس صورة مظلوميتها. ما تخشاه دولة الاحتلال أن ينجح التحقيق في تغليب سردية الاستعمار وحق الفلسطينيين في استرجاع أراضيهم المحتلة، على سردية "الحرب على الإرهاب" و"الأراضي المتنازع عليها". ما يرعبها أن ينجح التحقيق في نشر خطابٍ يشوّش على الأساطير المؤسسة لكيانها، ويقنع شرائح من المجتمع الاسرائيلي بإجرامية دولتهم المحتلة، ومظلومية الفلسطينيين، وضرورة وضع حدّ لها. أما ما نخشاه على فلسطين ألا تكون هذه المعركة القانونية سوى ورقة ضغط سياسية أخرى في نفق المساومة المسدود، كما حدث بعد معركة لاهاي الأولى التي جرّمت فيها محكمة العدل الدولية جدار الفصل والضم الاستيطاني. من الواضح أنه كي يتطور ملف فلسطين من "حالة" إلى "قضية" في رفوف المحكمة، يحتاج الضحايا إلى قيادةٍ ترقى إلى مستوى القضية.