كيف يمزّق ترامب وانتهازيو الجمهوريين الولايات المتحدة؟
بدون مقدمات ولا إطناب: حجم الضرر الذي ألحقه دونالد ترامب بالولايات المتحدة أكبر من أن يتّضح أثره ومداه الآن. إنه ضررٌ عريضٌ وعميقٌ، وسيكون له ما بعده داخلياً، وعلى صعيد المكانة الأميركية دولياً، اللهم أن يَسْتَجْمِعَ أصحاب الأمر القدرة والإرادة على تجاوز حقبته السامة، وأن يتجاوب معهم قرابة 47% من الشعب الأميركي ممن صوّتوا له في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. الحديث هنا عن ظاهرة مركّبة ومعقدة اخترقت الوعي الأميركي، ومزّقت أعرافه وتقاليده الراسخة، وأضعفت مؤسساته القوية، وقسّمت شعبه، وشرذمت مفهوم الوطنية والانتماء، ليتحوّل إلى صراع مفتوح على صورتين متخيلتين لأميركا، واحدة تقوم على الانكفاء والبغضاء والشحناء والعنصرية، وأخرى تكافح لتعزيز قيم الانفتاح والاستيعاب والقيادة والريادة الدولية.
أيُّ الأميركيتين ستنتصر؟ من الصعب الجزم الآن. ولكن الأمر الوحيد الذي يمكن الجزم به أن أميركا اليوم تعرف طوراً من التراجع الذي قد يصل إلى حدّ الأفول، إن لم يتدارك العقلاء المسار، وهنا تكمن المشكلة تحديداً.
صحيحٌ أن في أميركا قيماً مؤسساتية ودستورية وقانونية وثقافية راسخة وعريقة، ولكن المؤسسات التي تحقق الاستقرار يقودها حزبيون، ينتمون إلى حزبين تحديداً، الجمهوري والديمقراطي. بهذا المعنى، فإن ملايين الموظفين البيروقراطيين الذين يعملون في الحكومة الفدرالية، والذين يحافظون على استمراريتها وعظمتها، خاضعون في النتيجة لمعنيين سياسياً، أو منتخبين على أساس حزبي. المشكلة في هؤلاء عندما يجعلون الولاء للحزب أو الإيديولوجيا أو الفرد فوق الولاء للوطن.
يقوم النظام السياسي الأميركي على الفصل بين السلطات الثلاث، التشريعية والقضائية والتنفيذية، وَتَنْتَظِمُ علاقات هذه السلطات بقاعدةٍ مفادها الضوابط والتوازنات. بمعنى أن كل سلطة من السلطات الثلاث تملك من الأدوات ما يمكّنها من ضبط تغول السلطتين الأخريين، وموازنة ما تملكانه من تأثير ونفوذ. ولكن عندما يسيطر حزب على سلطتين أو أكثر من السلطات الثلاث، يختلّ نظام الضوابط والتوازنات، فكيف إذا خضع ذلك الحزب لسطوة أو نفوذ شخص فيه، خصوصاً إذا كان ذلك الشخص هو رئيس الولايات المتحدة؟
لا أريد أن أتعمّق هنا أكثر في شرح الفلسفة الدستورية للنظام السياسي الأميركي وكيفية عمله، وكنت قد شرحت بعضاً من ذلك في مقال سابق (17 إبريل/ نيسان 2020) بعنوان: "انكشاف أميركا أمام جائحتي ترامب وكورونا". ما يهم هذه المقالة أن تقدم صورة حية لحجم الضرر الذي ألحقه ترامب بأميركا وسمعتها، وهو الضرر الذي سيكون له ما بعده من تداعياتٍ مستقبليةٍ عليها وعلى وحدتها ومكانتها العالمية. لم يكن بإمكان ترامب أن يفعل ذلك، لولا تواطؤ أغلب حزبه الجمهوري معه، الذي قدم غالب أعضائه في الكونغرس مصالحهم السياسية الضيقة على مصلحة بلادهم، فصنعوا من ترامب متسلّطاً يعيث خراباً وفساداً في أعظم دولة، أو ربما التي كانت أعظم دولة حتى زمن قريب.
لا يوجد أمل بأن يقلب الكونغرس النتيجة من بايدن لترامب، على الرغم من أن مهرّجين حول الرئيس يزينون له ذلك
في أميركا اليوم قليل من رجال الدولة، وكثير من الوصوليين والانتهازيين، خصوصاً في الحزب الجمهوري. وإذا أردت الدليل، فانظر إلى الجدال الذي لا يزال دائراً حول نتائج الانتخابات الرئاسية التي خسرها ترامب لصالح جوزيف بايدن بأكثر من سبعة ملايين صوت شعبي، وأربعة وسبعين عضواً في المجمع الانتخابي (306 - 232)، ومع ذلك لا يزال يصر أنه ربحها. حاول ترامب قلب نتيجة الانتخابات عبر المجالس التشريعية في الولايات وفشل. حاول قلبها عبر القضاء بكل درجاته، وصولاً إلى المحكمة العليا بأغلبيتها المحافظة، وهو الذي عيّن ثلاثة قضاة من أصل تسعة فيها، وفشل. وحاول سبر غور انقلاب عسكري وفشل. والآن يحاول قلب النتيجة عبر الكونغرس، وهو قطعاً سيفشل. لكن ما سينجح فيه ترامب هو زعزعة ثقة الأميركيين بنظامهم الانتخابي، وبالتالي المسُّ بركيزة الانتقال السلمي للسلطة في بلدٍ يعد نفسه أرقى نموذج ديمقراطي على وجه البسيطة. ثالثة الأثافي، تسلل خصوم الولايات المتحدة إلى وعي شعبها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مشيعين بينهم الشكوك حول ديمقراطيتهم، والشقاق والنزاع حول وطنهم.
ومرة أخرى، ما كان ترامب لينجح في تمزيق نسيج بلاده، لولا تواطؤ سياسيين جبناء من حزبه، مثل عضو مجلس الشيوخ عن ولاية ميزوري، جوش هاولي، وعضو مجلس النواب عن ولاية ألاباما، مو بروكس. أعلن هذان نيتهما تحدّي نتيجة الانتخابات عند مصادقة الكونغرس عليها في السادس من شهر يناير/ كانون الثاني الجاري. وهذا يعني أن الجلسة المشتركة لمجلسي النواب والشيوخ، وهي شكلية للمصادقة على تصويت المجمع الانتخابي الذي جرى في 14 من الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول) لصالح بايدن، ستنفضّ وسيجتمع كل مجلس على حدة لمناقشة النتائج مرة أخرى، ثمَّ التصويت عليها بشكل منفرد، قبل العودة إلى جلسة مشتركة للمصادقة على النتيجة.
ما يجري في أميركا اليوم ما كان ليكون لولا الثغرات الفادحة في الدستور، وتحوّل المجتمع من مجتمع واثق بنفسه متطلّع إلى الأفق إلى مجتمع مذعور يعيش على الخوف من "الآخر
طبعاً، لا يوجد أمل بأن يقلب الكونغرس النتيجة من بايدن لترامب، على الرغم من أن مهرّجين حول الرئيس يزينون له ذلك. بموجب التعديل الدستوري الثاني عشر، دور نائب الرئيس، مايك بينس، احتفالي بالدرجة الأولى، إذ سيرأس الجلسة المشتركة بصفته رئيس مجلس الشيوخ، ويفتح أوراق التصويت لِيَعُدَّها الكونغرس، ثمَّ يعتمدها بحكم الدستور. وبما أن عضوين على الأقل، في مجلسي النواب والشيوخ من الجمهوريين، قرّرا أنهما سيتحدّيان قوائم المجمع الانتخابي في ست ولايات، أريزونا وجورجيا وميشيغان ونيفادا وبنسلفانيا وويسكونسن، فإن هذا يعني يوماً إضافياً من النقاشات، حسب "قانون الفرز الانتخابي لعام 1887". لكن، لتغيير النتيجة في تلك الولايات، فإنه، حسب القانون نفسه، لا بد من توافق مجلسي النواب والشيوخ على ذلك، وهذا لن يحدث، فمجلس النواب تحت سيطرة الديمقراطيين، وفي الشيوخ أغلبية، بما في ذلك جمهورية، تقر بانتصار بايدن.
لا يعني هذا كله ترامب في شيء، وهو لا يزال يصر أن نائبه قادرٌ على التلاعب بالنتيجة ورفض المصادقة عليها، على الرغم من كل محاولات مستشاريه شرح الأمر له. والآن أعلن الحرب على زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، ويعدّه خائناً وضعيفاً. أما أولئك الأعضاء في النواب والشيوخ من الجمهوريين الذين يسايرون ترامب فإنهم يطمحون إلى الاستفادة من دعم قاعدة الرجل العريضة في أي انتخابات مقبلة. وبالتالي، يمزّق ترامب الحزب الجمهوري، ويجعل التصويت على مخالفة الدستور والتلاعب فيه قضية ولاء شخصي له بين أعضائه، أو أن النتيجة ستكون غضباً مسلّطاً على رقابهم في الانتخابات الداخلية للحزب عام 2022.
يمزّق ترامب الحزب الجمهوري، ويجعل التصويت على مخالفة الدستور والتلاعب فيه قضية ولاء شخصي له بين أعضائه
هذا بعض ما يجري في أميركا اليوم، وهذا ما كان ليكون لولا الثغرات الفادحة في الدستور، وتحوّل المجتمع من مجتمع واثق بنفسه متطلّع إلى الأفق إلى مجتمع مذعور يعيش على الخوف من "الآخر" الذي يُصوره بعضهم أنه قادم لسرقة لقمة عيشه، على الرغم من أن الاقتصاد الأميركي غير قابل للحياة من دون موجات هجرةٍ كثيفةٍ، جرّاء نسب التكاثر الضئيلة بين الأغلبية البيضاء. خصوم أميركا، وتحديداً الصين وروسيا، يتابعون ما يجري من تشظٍ في جسد خصمهما الجيوسياسي، وهم لا يكتفون بالمراقبة، بل يساهمون في تسعيره. حتى إيران تفعل الأمر ذاته.
إنها دورة الزمان التي جرت على الإمبراطوريات الأخرى في تاريخ الإنسانية من قبل، وهي الآن تجد بعض أصداء لها في أميركا، ولعل منها تلك القاعدة القرآنية: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا" (الإسراء: 16). هذا ما يفعله بعض الانتهازيين الجمهوريين بتواطئهم مع ترامب، اللهم أن يأخذ العقلاء على أيديهم، ويعطوا الولايات المتحدة حبل حياةٍ جديداً قبل أن يفوت الأوان.