كيف يكتب الكاتب نصّه؟

16 نوفمبر 2021

(عبد الله أوعبي)

+ الخط -

كلّ إنسان ابن لبيئته الاجتماعية، لمرحلته العمرية، لعصره ومدركاته وصورته عن نفسه في مرآة ذاته الشخصية، غير أنّ ما يميز المثقفين والمشتغلين بالفنون والإبداع، بكلّ صنوفهما وفروعهما، أنّ لدى هذه الكوكبة عيناً ترى ما لا تراه عيون غيرهم، وذهنية نقدية متيقظة لا تمرّ مرور الكرام على ما يحيط بها من وقائع قد تكون صغيرة، ولا يغيب عنها ما يلتبس على الكافة من مجرياتٍ يومية، تجري قدّام عامة الناس، من دون أن تلفت الانتباه، أو تستوجب الفحص والمراجعة.
ينطبق هذا التشخيص الأولي على الكتّاب الصحافيين بصورة خاصة، هؤلاء الذين يحاكي حالهم حال الحارس الليلي في الثغور والمعسكرات المنشآت العامة، أو المنقب عن الآثار واللقى في الخرائب والقبور الدارسة، وليس من المبالغة القول إنّ لدى نفر من هؤلاء الكتاب قرون استشعار خاصة، تلتقط الإشارات عن بعد، تتحسّب لكلّ شاردة وواردة، تطرح التساؤلات، تثير الأسئلة، وتشعل الضوء الأحمر في الوقت المناسب.
وعلى غير ما يعتقد كثيرون، أنّ الكاتب ينبغي أن يكون محايداً لا رأي له، على غرار المراسلين الصحافيين ومعدّي التقارير الإخبارية، وأنّ عليه أن يأخذ موقفاً يتموضع من خلاله في نقطة المنتصف بين الآراء المتعارضة، فإنّ على الكاتب السياسي المستقل أن يتحاشى المجاملات، أن يتجنب المنطقة الرمادية، وأن يعبّر عن وجهة نظره بموضوعية، حتى وإن كان ذلك لا يرضي سائر أطراف المسائل الخلافية.
وعليه، فإنّ السؤال هو، كيف يكوّن الكاتب الصحافي رأيه، ويبني عليه موقفاً مستقلاً قد يجلب عليه اللوم، أو يسبب له خصومة، لا سيما إذا كان سقف الحرية مرتفعاً لدى منبره، وكان الكاتب رصيناً حصيفاً وصاحب رؤية سديدة، يعتدّ بنفسه ويُعتدّ بوجهة نظره عند المفترقات وعقد المقارنات وخوض غمار الموضوعات الإشكالية، حتى وإن كان يقف في صف الأقلية، ولا يحظى باستحسان الأكثرية المفعمة غالباً بحسن النية؟
أحسب أنّ الكاتب الذي يحرص على صورته الذهنية المنطبعة عنه لدى المتلقين، ويرغب أن يكون في مستوى التوقعات منه عبر إطلالاته المنتظمة، يكتب نصه، أو قل يكتب نفسه في المقام الأول، مستمدّاً تقويمه للوقائع والمجريات التي تحيط به، من مصدرين أساسيين: خبرته القائمة على تجربة شخصية متراكمة، وقراءته الاستشرافية الحاذقة لشتّى المتغيرات المتصلة بموضوعه.
ومع أنّ هناك منظومة واسعة من القيم والمبادئ والمفاهيم، ناهيك عن مجموعة من الاعتبارات الذاتية والموضوعية، تشكّل في وقت ما، وتعيد تشكيل موقف الكاتب في وقت آخر، إزاء مسألة بعينها مطروحة على مائدة النقاش العام، إلّا أنّ الخبرة الذاتية والقراءة المتأنية لأبعاد حدث مختلف عليه تظلان بمثابة الركيزتين القويتين اللتين تنهض عليهما مقاربة المشهد الذي يرتسم في وعي الكاتب، ثم يستقر في داخل ضميره، أو قل لدى سيده الوحيد صاحب السلطة المطلقة على قلمه.
وليس من شك في أنّ الكاتب السياسي يحمل وزراً أخلاقياً يفوق ما لدى الكتاب المتعاطين مع شؤون الأدب والاقتصاد والرياضة وغيرها، لا سيما أنّه يخاطب أولي الأمر والرأي العام والنخب السياسية والثقافية، ويتعاطى مع قضايا ذات حساسية عالية، ما يضع الكاتب في بؤرة ضوء ساطعة، تُحسب عليه كل كلمة، وتعدّ عليه أنفاسه، وبالتالي فإنّ خطأه أو سوء تقديره، والحالة هذه لا يقابل بالتسامح والعفو كغيره.
خذ على سبيل المثال هذا التباين الشديد، والطبيعي بالضرورة الموضوعية، بين مواقف الكتّاب إزاء سائر الأزمات المستفحلة في مشرق العالم العربي وفي مغربه، أو اختلافاتهم حيال التطورات الجارية، حيث تجد المتقابلين على جانبي متراس الرأي والرأي الآخر، يصدرون، كلّ على حدة، عن قناعاتٍ ذاتيةٍ مسبقة، أو اجتهادات ورؤى تفضيلية معينة، تكونت لديهم على خلفيات فكرية متعارضة، تخالطها حيناً شبهة الرغائبية وأحياناً مثلبة الانتقائية، ودع عنك نقيصة المصلحة الشخصية، وذلك كله في خضم معركة كلامية صاخبة، توجع من دون أن تُسيل نقطة دم واحدة.
إزاء ذلك كله، الكاتب وهو يخطّ مقاله، أو قل يكتب نصّه ونفسه معاً، يكون قد كوّن رأيه سلفاً، وأعد عدّة دفاعه عن وجهة نظره مسبقاً، معتمداً في ذلك على رؤيته ومعاييره الفكرية الخاصة، التي أرست دعائمها التجربة المتراكمة والقراءة الموضوعية، تلك التي سبق له أن جسّها برؤوس أصابعه مراراً، واختبر قوامها تكراراً، وطرحها في معمعان هذه المهنة المتعبة، ولقي حيالها الاستحسان والتقريظ في قليل من الأحيان، وكثير من الاتهامات والتعريض به، لا برأيه، في أغلب الأوقات.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي