كيف جَنَّدَ كوشنر بن سلمان في خدمة إسرائيل؟

27 نوفمبر 2020

كوشنر وزوجته إيفانكا ترامب مع محمد بن سلمان في الرياض (21/5/2017/فرانس برس)

+ الخط -

احتفل معسكر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بحديث اللقاء الذي جمعه وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، يوم الأحد الماضي، في مدينة نيوم، على ساحل البحر الأحمر، شمال غرب السعودية، بحضور وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو. سارعت المملكة إلى نفي الخبر على لسان وزير خارجيتها فيصل بن فرحان، في حين رفض نتنياهو تأكيد الخبر أو نفيه، على أساس أنه "على مر السنين لم أتطرق إلى مثل هذه الأمور ولن أقوم بذلك الآن". أما بومبيو، فرفض تأكيد الخبر وإن لم ينفه، قائلاً: "سأترك لهم مناقشة الاجتماعات التي ربما يكونون قد عقدوها أو لم يعقدوها". النتيجة، أن الاجتماع المعلن بين بن سلمان وبومبيو قد ضمَّ، على الأغلب، نتنياهو. هذا ما نستشفه من ضبابية تصريحي الأخيرين، اللذين يكادان يقولان نعم، وخصوصاً أن مؤشرات أخرى ترجح ذلك، مثل سماح الرقابة العسكرية الإسرائيلية بنشر الخبر، وتصريحات وزير التعليم الإسرائيلي المحتفلة به، فضلاً عن تغريدة تلمح إلى ذلك للمستشار الإعلامي لنتنياهو، قبل أن يحذفها لاحقاً. أضف إلى ذلك، تأكيد موقعين لتعقب الرحلات الجوية، ADS-B Exchange وFlightAware، أن طائرة إسرائيلية خاصة تعود ملكيتها لرجل أعمال إسرائيلي، ويستخدمها مسؤولون إسرائيليون عادة في مهمات سرّية، انطلقت صباح 22 من نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي إلى مدينة نيوم السعودية، وعادت بعد ساعات قليلة إلى مطار بن غوريون، قرب تل أبيب. ومعلوم أن بومبيو التقى بن سلمان في نيوم في ذلك اليوم.

لا تنحصر حسابات بن سلمان في الخوف من مقاربة أميركية جديدة نحو إيران، وهو  ما دفع به إلى محاولة تعزيز موقفه بموقف إسرائيلي مماثل متشدّد نحو طهران

أوردت المقدمة السابقة للدخول في الأهم، على أساس ترجيح فرضية اللقاء. لن تخوض المقالة هنا في الدوافع الأميركية والإسرائيلية منه، وإنما تركّز على الدور الذي كَيَّفَتْهُ وَفَصَّلَتْهُ بعض الدوائر في إدارة ترامب لابن سلمان، بالتوافق مع جناح نتنياهو في اليمين الإسرائيلي. أيضاً، لن تستغرق المقالة في الحسابات السياسية الداخلية التي دفعت معسكر نتنياهو إلى الكشف عن اللقاء. ولكن قبل الولوج إلى الدور الذي أنيط بابن سلمان، من المهم الإشارة إلى أن خسارة دونالد ترامب الانتخابات الرئاسية، واستعداد جو بايدن لتولي الرئاسة مطلع العام المقبل، أمران حاضران في ذهن بن سلمان الذي يخشى أن تتبنّى الإدارة القادمة مقاربة مختلفة لدوره ومستقبله في الحكم. هذا هو بيت القصيد.
لا تنحصر حسابات بن سلمان في الخوف من مقاربة أميركية جديدة نحو إيران، وهو أمر يدفع الرياض إلى محاولة تعزيز موقفها بموقف إسرائيلي مماثل متشدّد نحو طهران، آخذة في الاعتبار نفوذ اللوبي الصهيوني في واشنطن. يعلم بن سلمان أن له أعداء كثيرين في الطبقة السياسية الأميركية، وتحديدا في الكونغرس، فضلاً عن الوكالات الحكومية المختلفة، وفي الأجهزة الاستخباراتية والعسكرية، وأيضاً في الإعلام، جرّاء سياساته الرعناء في المنطقة، وانتهاكه حقوق الإنسان في بلاده، ووقوفه وراء جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، في أكتوبر/ تشرين الأول 2018، في قنصلية بلاده في إسطنبول. كما أنه يعلم أن بايدن صرح بوضوح بأنه لن يُبقي على الدعم الأميركي اللامحدود للحرب السعودية – الإماراتية في اليمن. وإذا كان بن سلمان قد خسر ترامب، فمن المنطقي أن يسارع إلى محاولة التدثر بإسرائيل، لعله يجد دعماً في أميركا لشخصه ودوره ومستقبله في السعودية والمنطقة.

يعلم بن سلمان أن بايدن صرح بوضوح بأنه لن يُبقي على الدعم الأميركي اللامحدود للحرب السعودية – الإماراتية في اليمن

الصورة التي سترسمها السطور التالية للدور الذي كَيَّفَهُ وَفَصَّلُهُ جاريد كوشنر، صهر الرئيس ومستشاره ومسؤول ملف الشرق الأوسط في إدارة ترامب، لابن سلمان قبل أن يصبح وليّاً للعهد في يونيو/ حزيران 2017، يعتمد على معلومات ووثائق مؤكّدة نشرت في كتاب: "نار وغضب: داخل بيت ترامب الأبيض"، في يناير/ كانون الثاني 2018، بالإضافة إلى تقريرين استقصائيين. الأول، نشر في مجلة نيويوركر، في الثاني من إبريل/ نيسان 2018، بعنوان "سعي أمير سعودي إلى إعادة صياغة الشرق الأوسط". والثاني نشر في صحيفة نيويورك تايمز، في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2018، "استمالة كوشنر: كيف حصل السعوديون على صديق في البيت الأبيض".
حسب تقرير "نيويورك تايمز"، سعى بن سلمان، منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، أي منذ فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية، وقبل توليه الرئاسة فعلياً مطلع 2017، إلى التواصل مع كوشنر، في محاولة لنيل صداقته ودعمه. وفعلاً، التقى مبعوثون عنه بهذا الأخير. في ذلك الوقت، كان بن سلمان وليّاً لوليِّ العهد، وكان طامحاً بولاية العهد مكان ابن عمّه محمد بن نايف. واستناداً إلى تقرير "النيويوركر"، حاول بن سلمان، منذ 2015، عبر مبعوثين له وبتأييد إماراتي، التأثير على إدارة الرئيس باراك أوباما، لدعمه في طموحه لولاية العهد، إلا أنها رفضت التدخل في الأمر. إن بن نايف كان على علم بتحرّكات بن سلمان والإماراتيين، ومن ثمَّ حاول أيضاً طلب الدعم من مسؤولين آخرين في إدارة أوباما. ولكن مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض، استشعر بن نايف الخطر المُحدق به، فكتب إلى عمّه الملك رسالة يحذّره فيها من محاولات ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، وسفير الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة، شرخ العائلة السعودية المالكة، عبر التدخل في الصراع على ولاية العهد.

سعى بن سلمان، منذ فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية، وقبل توليه الرئاسة فعلياً مطلع 2017، إلى التواصل مع كوشنر، في محاولة لنيل صداقته ودعمه

ويؤكد تقرير "نيويورك تايمز" أنه منذ اللقاء الأول لمبعوثي بن سلمان بكوشنر، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، كان من الواضح لديهم أنه مهتم بشكل أساسي بإسرائيل، وحل صراعها مع الفلسطينيين بطريقة تخدم رؤيتها ومصالحها. وكوشنر هذا يهودي أرثوذكسي صهيوني من عائلة ثرية تدعم إسرائيل، وترتبط بصداقة شخصية مع نتنياهو. ومن ثمَّ، سارع بن سلمان إلى التعهد، بالإضافة إلى أمور أخرى، بمساعدة إدارة ترامب في أي جهودٍ لحل النزاع الفلسطيني/ العربي – الإسرائيلي. ينقل تقرير "النيويوركر" عن مسؤول كبير في إدارة ترامب حضر الاجتماع الأول للجنة المسؤولة عن الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي، برئاسة كوشنر، أن النقاش تركز على كيفية إعادة تشكيل الشرق الأوسط، وضرورة "إيجاد وكيل تغيير" في المنطقة. وقع اختيار كوشنر على بن سلمان، الذي كان مقتنعاً بأن دعامتي السياسة الأميركية في الشرق الأوسط هما إسرائيل والسعودية، كما أبدى تأييده للمنطق الإسرائيلي أنه لا يمكن لإسرائيل أن تُحدث اختراقاً في الخليج العربي من دون رضى السعودية.
بعد شهرين، وتحديداً في مارس/ آذار 2017، رتب كوشنر لقاء غداء رسمي في البيت الأبيض بين ترامب وبن سلمان، في تجاوز للبروتوكول الرئاسي، حيث كان بن سلمان وقتها وليّاً لولي العهد، وليس رأس الدولة أو الرجل الثاني فيها. ومنذ ذلك الحين، أصبح التواصل مباشراً بين الرجلين عبر تطبيق واتساب. بل كان مسؤولو الاستخبارات الأميركية والأمن القومي ووزارتي الخارجية والدفاع قلقين من تلك الاتصالات البعيدة عن أعين الوكالات المختصة، حتى في خضم أحلك الأوقات في العلاقة بين البلدين، كما بعد اغتيال خاشقجي. ولم يكد يمضي شهر على مشاركة ترامب في القمة العربية/ الإسلامية - الأميركية التي استضافتها الرياض في مايو/ أيار 2017، حتى كان بن سلمان يطيح ابن عمه من ولاية العهد، وهو ما دفع ترامب إلى الاحتفال والتباهي علناً أمام مساعديه في البيت الأبيض، حسبما يؤكد كتاب "النار والغضب"، قائلاً: "لقد أوصلنا رجلنا إلى القمة"!

في مارس 2017، رتب كوشنر لقاء غداء رسمي مع ترامب في البيت الأبيض، في تجاوز للبروتوكول الرئاسي، حيث كان بن سلمان وقتها وليّاً لولي العهد

في ما يخص إسرائيل التي كانت ولا تزال أولوية لدى كوشنر، لم يتأخر بن سلمان لحظة في مساعي رد الجميل. في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، وحسب تقارير متواترة في الصحافة العربية والعالمية، استدعى ولي العهد السعودي الجديد الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وضغط عليه للتجاوب مع اشتراطات إدارة ترامب ومطالبه لتحقيق "سلام" يخدم إسرائيل. وخيّره بين القبول أو الاستقالة. وفي مقابلة مع مجلة ذي أتلانتيك الأميركية في إبريل/ نيسان 2018، قال بن سلمان إن للإسرائيليين الحق في العيش في أرضهم ووطنهم بسلام، وبأنه "لا يوجد اعتراض ديني" على وجود إسرائيل. قبل ذلك بأيام، في مارس/ آذار، التقى بن سلمان مع قادة المنظمات اليهودية الصهيونية الأميركية. كما أنه استقبل غير مرة في المملكة زعماء يهود مؤيدين لإسرائيل. وفي يناير/ كانون الثاني 2020، زار وفد إسلامي، برئاسة أمين عام رابطة العالم الإسلامي ووزير العدل السعودي الأسبق محمد العيسى، موقع الهولوكوست في بولندا. وبين هذا وذاك، جرت زيارات كثيرة من مواطنين سعوديين إلى الدولة العبرية.
إلا أن الخدمة الأبرز التي سيقدمها بن سلمان لكوشنر وإسرائيل مباركته، في أغسطس/ آب الماضي، عقد الإمارات اتفاق سلام مع إسرائيل، ثمَّ لحاق البحرين، بإذن من الرياض، بها في سبتمبر/ أيلول، وهو ما فتح الباب تالياً للسودان، الشهر الماضي، ودول أخرى في الطريق. وفي الشهر الماضي، أيضاً، سمحت الرياض للطائرات التجارية الإسرائيلية بالتحليق في أجوائها، بزعم إكرام أبوظبي. المفارقة، أن الطائرات القطرية الشقيقة لا تزال ممنوعة من التحليق في أجواء بلاد الحرمين الشريفين! وكانت لافتة محاولة الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشيخ عبد الرحمن السديس، في خطبة في الحرم المكي الشريف، في سبتمبر/ أيلول الماضي، تقديم تأسيس ديني، ضمنياً، للسلام مع إسرائيل المعتدية، عبر تخليط ذلك بتعامل الإسلام مع اليهود. المنبر الذي خَلَّطَ السديس من فوقه، هو الذي وُظِّفَ مرات ومرات لمهاجمة مسلمين وأشقاء آخرين، كما قطر وتركيا والإخوان المسلمين، ومذاهب إسلامية معتبرة!
باختصار، ما فعله بن سلمان في نيوم هو نفسه ما أوكِلَ إليه من كوشنر، وإسرائيل في القلب منه. ومن ثمَّ، كان اللقاء مع نتنياهو خطوةً في مساعي ترسيخ ذلك الدور، ورسم خطوطه الجديدة وتسييجها، في ظل وصول بايدن إلى الرئاسة، وقبل ذهاب ترامب. بمعنى، لا يقتصر الأمر على محاولة حماية بن سلمان فحسب، ولا على تنسيق الموقف السعودي – الإسرائيلي ضد إيران فقط. وكما قال الصحافي الأميركي توماس فريدمان، بعدما التقى بن سلمان في الرياض في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، فإن الأخير مصرٌّ على هندسة تغيير ديني، وليس اقتصادياً فقط، في السعودية والمنطقة ككل، وأزعم أن تطبيع إسرائيل وعدوانها في القلب من ذلك.