كيسنجر بين الواقعية والعمالة للسوفييت
توفّي قبل أيام السياسي الأميركي الشهير، هنري كيسنجر، عن أزيد من مائة عام، حيث عاصر الحرب العالمية الثانية وشارك فيها، وبقي بالقرب من صانعي السياسية أيام الحرب الباردة بين قطبي السياسة الدولية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، ثم شهد سقوط الشيوعية وعايش الفترة التي تلتها، وتابع باهتمام، في السنتين الأخيرتين، الحرب الروسية الأوكرانية التي جرت بين بلدين سابقين في مجموعة الاتحاد السوفييتي الشيوعي.
تعامل كيسنجر مع الاتحاد السوفييتي بشكل مباشر، وكان أحد مهندسي السياسة تجاهه، وعمل على تشكيل علاقات الولايات المتحدة بمبدأ واقعية متطرّفة، تستخدم الظروف والعلاقات الدولية المتاحة للخروج بأفضل نتيجة، من دون أن يقمع رغبته في مشاهدة الشيوعية تختفي من الوجود. وبناء على هذا المعتقد، أيد خلع الرئيس اليساري سلفادور الليندي في تشيلي، وكان قريبا من القرارات الحربية التي اتخذتها الولايات المتحدة في فيتنام وكمبوديا تحت شعارات وقف التمدّد الشيوعي في أنحاء العالم.
لم يحوّل الموقف من الشيوعية كيسنجر إلى عدوّ مهووس تجاه السوفييت، رغم أن ذلك كان رائجا في الإدارات الأميركية، وله مناصرون أقوياء وصدى في الشارع الأميركي، لكن كيسنجر سعى، بواقعيته، إلى الاعتراف بالسوفييت وبمناطق يكون نفوذهم فيها واضحا، وعمل بجدّ على عقد معاهدات كبرى معهم بعد محادثات مضنية أثمرت عن توقيع اتفاق "سالت 1" للحد من الصواريخ الباليستية، ووضع الإطار العملي لاتفاق "سالت 2"، وحاول بذلك تحديد حركتهم٬ وأراد مراقبة كل الأنشطة الخاصة بهم، والطرق التي يعملون بها. اعترف كيسنجر بالاتحاد السوفييتي قوةً عظمى، ما أدّى مباشرة إلى توقّف السباقات المحمومة بين القطبين في مجالات متعدّدة، منها الفضاء والأسلحة النووية، ولكنه، في الوقت نفسه، عمل جاهدا على تضييق مناطق نفوذ الشيوعية وحصرها قدر الإمكان، بوسائل كثيرة أظهرت شيئا من طبيعته، فقد ساهم في إنهاء حكم رئيس شيوعي منتخب في تشيلي بشكل دموي وبوسائط عسكرية، ولكنه في مناطق أخرى استخدم التمويل لتبقى بعض الأنظمة، ومنها دول عربية، بعيدة عن الهوى الشيوعي.
بحسب المدرسة الواقعية، كان كيسنجر على حقّ، فقد كان العالم بالفعل مبنيّا على قطبين، ولا جدوى من تجاهل هذه الحقيقة، والأفضل مواجهتها والتعامل معها كما هي، وهذا ما فعله، فقد تمتّع القطبان بتفوّق عسكري واستراتيجي ساحق، ولم يقترب بلدٌ ثالث من منسوب القدرات التي ملكاها، ورغم تفوّق الولايات المتحدة التكنولوجي والاقتصادي، إلا أن اعتراف كيسنجر بالقوة الروسية جعل السوفييت يعتقدون بأنهم حقّقوا انتصارا.
مهّد كيسنجر بهدوء لمعاهدة "سالت" بالتقارب مع الصين التي كانت بلدا مهملا مكتظّا، وبما يشبه محاولة الاكتشاف٬ زار كيسنجر هذا البلد بشكل سري، والتقى هناك بزعمائه، واضعا أمامه خلال تلك الزيارة معطيات العلاقات المتوتّرة بين الاتحاد السوفييتي والصين، فبنى عليها فكرة تحسين علاقات بلده مع الصين، ليحصل على وضعية أقرب إليها من الاتحاد السوفييتي، ما يتيح له النظر من النافذة القريبة للفناء الخلفي الشيوعي، وهذا ما حدث، فقد نتجت عن زيارته السرّية (1971) عملية سياسية انتهت بعلاقات دبلوماسية كاملة مع الصين، بجانب قبولها عضوا في الاقتصاد العالمي. أما الاختراق الضخم الذي حقّقه فكان ترتيب اللقاء التاريخي بين الزعيم الصيني ماو تسي تونغ والرئيس الأميركي نيكسون في 1972، الأمر الذي جعل الاتحاد السوفييتي يراقب العملية بحزن، ويحاول اللحاق بما فاته، فقام بتوقيع معاهدة "سالت".
أثارت سياسة كيسنجر بخصوص الاتحاد السوفييتي بعض الكتّاب من معتنقي الفكر المتطرّف ضد الشيوعية، الذين يرفضون مشاهدة أي تقارب من أي نوع مع السوفييت، فقد ادّعى فرانك كابيل، وهو كاتب مثير للجدل، أن كيسنجر كان عميلا سوفييتيا في أثناء خدمته العسكرية في الحرب العالمية الثانية، بينما الحقيقة أن كيسنجر لا يقلّ كرها للشيوعية عن كابيل نفسه، ولكن كل بطريقته الخاصة.