كونفيدرالية الساحل... موجة تحرّر أم تموقع جديد؟

02 اغسطس 2024
+ الخط -

أعلنت القيادات العسكرية في كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، مطلع الشهر الماضي (يوليو/ تمّوز)، تأسيس اتحاد باسم "كونفيدرالية دول الساحل"، في ختام أعمال أول قمّة جمعت قادة الدول الثلاث، مع إسناد رئاستها مدة سنة واحدة إلى القائد المالي عاصيمي غويتا. فكرة التحالف لم تكن وليدة اللحظة، فبداياتها كانت في شهر سبتمبر/ أيلول 2023، عقب توقيع ميثاق ليبتاكو - غورما، المكوّن من 17 بنداً تضع هيكلاً تعاونياً للتحالف الاستراتيجي بين الأعضاء، ثمّ تعزّزت أكثر، في مارس/ أذار الماضي، بإنشاء قوّة مشتركة بهدف مكافحة الجماعات المسلّحة التي تهاجم أراضي هذه الدول.

تاريخياً، فكرة الكونفيدرالية ليست أمراً جديداً في أفريقيا، فقد شهدت القارّة أكثر من تجربة اتّحادية؛ خلال الاستعمار وزمن الاستقلال، من قبيل اتحاد روديسيا ونياسلاند (1953- 1963) المُشكّل من ثلاث مستعمرات بريطانية: زيمبابوي وزامبيا وملاوي، واتحاد الدول الأفريقية (1958- 1963)، الذي ضمّ كلّاً من غانا وغينيا ومالي، ثم اتحاد سينيغامبيا الكونفيدرالي (1982- 1989)، الذي تشكَّل عقب إحباط المحاولة الانقلابية في غامبيا بمساعدة من السنغال. لكن كونفيدرالية الساحل، وبخلاف ما سبق، تأتي في سياقٍ خاصٍّ مرتبطٍ بانسحاب الأعضاء المُؤسِّسين من "إيكواس" (المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا)، بدعوى التخلّي عن الأهداف التأسيسية لصالح الانحياز لتنفيذ الأجندة الفرنسية في المنطقة. بذلك يكون الاتحاد الكونفيدرالي الوليد مُجرّد ردّة فعل ترمي إلى تحقيق أكبر قدر من السيادة الوطنية بعيداً عن فرنسا، من قادة وصلوا إلى الحكم عبر انقلابات عسكرية في منطقة الساحل، التي تحتلّ مكانة جيوسياسية مُهمّة. لكنّه يبقى خطوةً نوعيةً ولافتةً، ضمن تحوّلات جوهرية في إقليم يتّّسم بدرجة كبيرة من التعقيد والاضطراب والتفاعلات المتشابكة، من أجل إعادة تشكيل التوازنات إقليمياً ودولياً.

يُجمع العسكريون الثلاثة على أنّ هذا الاتحاد يرمي لمقاومة الهيمنة الغربية، وعلى وجه التحديد الفرنسية، في المنطقة، فقد وصف الجنرال النيجري عبد الرحمن تياني القمّةَ بأنّها "تتويج لإرادتنا المشتركة الحازمة لاستعادة سيادتنا الوطنية". هكذا، تكون الرغبة في فكّ الارتباط بين دول التحالف وباريس هدفاً يجمعهم، خصوصاً أنّ باريس ما زالت تُمعِن في نهج سياسية أبويّة عند كلّ تعامل مع مستعمراتها السابقة في ما يتعلّق بالسيادة الوطنية أو الاستحواذ على الموارد ونهب الثروات الطبيعية.

عند كلّ انقلاب جديد، يجد النظام العسكري نفسه في مواجهة الضغوطات نفسها، إقليمياً من "إيكواس"، ثمّ من الاتحاد الأفريقي بدرجة أقلّ، ودولياً من فرنسا، وبقيّة الدول الغربية، ما دفعهم إلى توحيد المواقف من أجل مواجهة الحملات الشرسة ضدّهم، والفكاك من العزلة السياسية وسلاح العقوبات الاقتصادية المُسلّط عليهم من "إيكواس". وبلغ التضامن ذروته بإعلان كلّ من مالي وبوركينا فاسو وقوفَهما إلى جانب النيجر ضدّ أيّ اعتداء خارجي.

تمثّل "إيكواس" تحدّياً للاتحاد الكونفيدرالي الذي يجاهر قادته بمعاداته

داخليا، تشترك دول التحالف في خصائص من شأنها أن تُشكّل عنصر قوّة يضمن استمرارية الكونفيدرالية الفتيّة، فديمغرافياً تكاد الدول تكون متقاربة: مالي 24 مليون نسمة، وبوركينا فاسو 23 مليون نسمة، وفي النيجر 28 مليون نسمة، ما يعني استبعاد مسعى طرفٍ للهيمنة أو الاستقواء على بقيّة الأعضاء، فضلاً عن أنّها مجال خصب لانتعاش الحركات المسلّحة في منطقة الساحل، لا سيّما مثلت تيلابيري الواقع عند الحدود المشتركة بين الدول الثلاث. كما كانت أخيراً مسرحاً لموجة شعبية مناهضة للوجود الأجنبي في المنطقة، ساهمت في تعزيز الشرعية السياسية للأنظمة العسكرية لدى الشعوب. وامتدت مشاعر العداء لدى زعماء وشعوب هذه الدول نحو "إيكواس"، التي اعتبرها الزعيم النيجري، مستضيف القمّة، تمثّل "تهديداً"، وأنّ قادة الدول عازمون على "إنشاء نظام للشعوب بديلاً من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا التي تملي عليها قوى غريبة عن أفريقيا توجيهاتها وتعليماتها".

تمثّل العوائق بدورها مشتركاً بين أعضاء التحالف، لعلّ أبرزها الطبيعة الجغرافية، فكلّها دول حبيسة بلا أيّ منفذٍ بحري، ما سينعكس لا محالة في التكامل الاقتصادي، ويعيق عمليات تصدير المواد الخام للخارج، في ظلّ بنية تحتية ضعيفة وهشّة، فهذه البلدان في ذيل القائمة (مالي 126، بوركينا فاسو 131، النيجر 142)، بحسب مُؤشّر البنية التحية (GQII) الصادر عام 2023. إضافة إلى الضعف، حتّى لا نقول العجز، الاقتصادي، ما سينعكس في الإمكانات والموارد المطلوبة لدعم إدارة الكونفيدرالية لتحقيق طموحات الزعماء وتطلّعات الشعوب. عائق يبقى في المتناول، حسب أنصار التحالف، فتحرير الموارد والثروات، خاصّةً المعادن، يعني امتلاكَ السيادة الاقتصادية، ما يُعدّ فرصةً مثاليةً لفكّ الارتباط مع الفرنك الأفريقي بإنشاء عملة خاصّة.

إشكال قانوني يتعلّق بمدى قانونية إنشاء الكونفيدرالية من مجالسَ عسكرية، فهذه الأنظمة تفتقر إلى سلطة سنّ قوانين تغيّر الهيكل السياسي للدولة

إقليمياً، تمثّل "إيكواس" تحدّياً لهذا الاتحاد الكونفيدرالي الذي يجاهر قادته بمعاداته، فالتحالف الوليد، في نظر القائد النيجري، "بديل عن أيّ تجمّع إقليمي مصطنع عبر بناء مجتمع سيادي للشعوب، مجتمع بعيد عن هيمنة القوى الأجنبية". ويبقى، بحسب الزعماء، قرار تفعيل "القوة الاحتياطية" تأهّباً لإعلان الحرب ضدّ عضو في التكتل، حتّى من دون انتظار رأي برلمان المجموعة، أكبر دليل على كيفية اتخاذ القرارات المُهمّة في تجمّع يسعى نحو تحقيق الوحدة السياسية والاقتصادية بين دوله. من شأن ذلك زيادة المخاوف والقلق داخل أروقة "إيكواس"، وفي أكثر من عاصمة غربية، فسهام قادة تحالف الساحل موجّهة بشكل مباشر صوب المنظّمة، ما يهدّد وحدة وتماسك الكتلة الإقليمية أمام هذه التطورات المفاجئة. كما أنّها تؤجّج حالة الاستقطاب المتنامية في المنطقة مع تزايد النفوذ الروسي، الذي كان بديلاً كفؤاً لدول التحالف، ما شجّعها على إطلاق الدعوات إلى أكثر من دولة للانضمام إلى هذا التحالف، تفادياً لأيّ إملاء أو توجيه من التجمّع.

بعيداً عن المحفّزات والعوائق، التي من شأنها تشكيل الاتحاد الكونفيدرالي، ثمّة إشكال قانوني يتعلّق بمدى قانونية إنشاء الكونفيدرالية من مجالسَ عسكرية تدير مراحل انتقالية في بلدانها، فهذه الأنظمة تفتقر إلى سلطةَ سنّ قوانين من شأنها تغيير الهيكل السياسي للدولة. ثم ماذا لو انتُخبت حكومات جديدة، بعد انقضاء الفترة الانتقالية، ترى أنّ فوائد العضوية في "إيكواس" أفضل من العضوية في الكونفيدرالية؟

E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري