كوميديا تونسية سوداء
ليست المشكلة في أن القرارات التي اتخذها الرئيس التونسي، قيس سعيّد، تبدو متشابهة حتى التطابق مع ما حدث في بلدان أخرى، مثل مصر، إذ استفاض كثيرون في الحديث عن أوجه ذلك التشابه، لكن المذهل هو دفاع بعض التونسيين من مؤيدي تلك القرارات عنها، وزعمهم أن تلك التجربة ستكون مختلفة عما عداها، مع كثير من الهجوم والتجريح الذي يصل إلى السباب ضد منتقدي ما حدث، حتى إن الأمر وصل إلى مرحلة المهزلة الكوميدية التي تبعث على الضحك بدلا من الغضب، وإن كان ضحكا ممزوجا بالمرارة من سقوط الإنسان في الأخطاء نفسها وعدم تعلمه منها بأي شكل، ومن المصير الذي يبدو أن تونس تتجه إليه، تلك التجربة الوحيدة التي كانت تكمل طريقها نحو الديمقراطية، قبل أن يحدث ما حدث.
بدأت الكوميديا من أن الرجل الذي خالف الدستور، وضرب به عرض الحائط، هو أستاذ في القانون الدستوري. كان يتشدّق ليل نهار بخلفيته تلك باعتبارها أكبر مناقبه، فإذا به يخالف المادة الدستورية التي زعم أنه يطبّقها مخالفة صريحة. بعد ذلك، جاء دور مؤيدي قرارات الرئيس الذين دافعوا عنها باستماتة، بحجّة أن من اتخذها منتخب ديمقراطيا، وكأن نواب البرلمان ليسوا منتخبين. وامتد ذلك الدفاع إلى تبرير حملة الاعتقالات التي طاولت ناشطين ونوابا في البرلمان، بزعم أنّ هؤلاء مطلوبون من النيابة التي أعلن قيس سعيد أنه سيتولّى رئاستها بنفسه! وبعد اقتحام مكتب قناة الجزيرة، انبرى تونسيون لتبرير الإجراء، قائلين إن القناة تبثّ مشاهد قديمة للمتظاهرين المعارضين لقرارات الرئيس! وهو المبرر الأبله نفسه الذي ردّده بعض المصريين بعد عزل الرئيس محمد مرسي.
الحديث عن الجيش التونسي لم يخل من الكوميديا أيضا، من قبيل التأكيد على أنه ليس لهذا الجيش أي دور سياسي
كما انتشرت على مواقع التواصل وثائق مفبركة تدّعي أن دولة قطر مدت حركة النهضة بالأموال، في نسخة طبق الأصل لما قيل عن جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وهو ما يدلّ على أنّ العقل المدبّر واحد. ثم جاءت مرحلة الهجوم على منتقدي قرارات قيس سعيّد، والتأكيد، بثقة متناهية، أن تونس لا تحدث فيها انقلابات، فكأنّ ما قام به زين العابدين بن علي حدث في دولة أخرى! كما طالبت إحدى التونسيات المتحدّثين عما يجري في بلادها بأن "يتجاوزوا عقدة الانقلابات في المشرق العربي" وألا يسقطوها على ما يحدُث في تونس. وقالت أخرى إن المصريين عاشوا طوال حياتهم في ظل الديكتاتورية! وكأنّ الديمقراطية التونسية راسخة، وبدأت منذ مئات السنين مثلا، وليس أنها لم تتعد عشر سنوات منذ عام 2011.
أما الحديث عن الجيش التونسي، فلم يخل من الكوميديا أيضا، من قبيل التأكيد على أنه ليس لهذا الجيش أي دور سياسي، ولا ينفذ أي انقلابات عسكرية، على الرغم من أن قوات الجيش هي التي حاصرت مبنى الحكومة ومبنى البرلمان، ومنعت الموظفين والنواب والوزراء من دخولهما، كما أن القضاء العسكري يتولى ملاحقة عدد كبير من نواب البرلمان، ويُصدر قراراتٍ بسجنهم!
نشر حساب "العربية عاجل" على "تويتر" أن الأمن التونسي يراجع جوازات سفر جميع القادمين إلى البلاد! وكأنه لم يكن يقوم بذلك من قبل
وأخيرا، جاء دور الرئيس قيس سعيّد نفسه الذي أطلق تصريحاتٍ في منتهى الغرائبية، من قبيل أنّ "دعوة بعض القيادات إلى النزول الى الشارع مخالفٌ للنصوص الدستورية" وهو الذي انتهك الدستور ومسح به الأرض، كما أكّد أنه لن يبدأ في ممارسة الديكتاتورية وهو في سنّه هذا! ومن المؤكد أن الطغاة في المشرق والمغرب وجميع أنحاء العالم سيستلقون على ظهورهم من الضحك جرّاء هذا التصريح، لأنه يفترض أنّ للديكتاتورية سنّاً معينة، ولأنّ كوكب الأرض يعجّ بطغاة تفوق أعمارهم سنّ قيس سعيّد بكثير، ولم يمنعهم هذا من ممارسة الديكتاتورية.
ولم يخل المسلسل التونسي من نكات أخرى، متعلقة بتغطية القنوات الفضائية المؤيدة لما حدث، مثل "العربية" التي نشرت خبرا مفاده بأن حركة النهضة أصدرت بيانا "تجاهل دعوة الغنوشي للنزول إلى الشارع" على الرغم من أن زعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، لم يدع إلى ذلك من الأساس! وإنما قال إنّه "إن لم يكن هناك اتفاق بشأن الحكومة المقبلة، فإنه سيدعو الشارع للدفاع عن ديمقراطيته" أي أنها مرتبطة بشرط جوهري، ولم يدع للنزول إلى الشارع مباشرة. كما نشر حساب "العربية عاجل" على "تويتر" خبرا هزليا مفاده بأن الأمن التونسي يراجع جوازات سفر جميع القادمين إلى البلاد! وكأنه لم يكن يقوم بذلك من قبل، ويترك الجميع يدخلون البلاد من دون مراجعة جوازات سفرهم. أساءت القناة إذاً، إلى الأمن التونسي، من حيث أرادت أن تطبّل له! وأيضا تبيّن أن الوسوم والتغريدات التي ظهرت فجأة في تونس، وتحدّثت عن "انتفاضة ضد الإخوان" مصدرها السعودية والإمارات. نتمنّى أن تتوقف الكوميديا السوداء عند هذا الحد، وأن تتجاوز تونس هذه المحنة، وتكمل طريقها نحو الديمقراطية، وإن كان ما يحدث لا يبشر بخير مع الأسف.