تحليلات "صورية"

14 سبتمبر 2024

(Getty)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

زار الرئيس المصري، عبد الفتّاح السيسي، أنقرة ساعاتٍ، للمرّة الأولى منذ عام 2012، والتقى نظيره التركي رجب طيّب أردوغان. حاولت مواقعُ إخبارية في تركيا أن تخرج من الزيارة بأيّ إشارة تحاول بها الإيحاء بأنّ الموقف التركي لم يتغيّر، فوجدت ضالّتها في اليد التي لوَّح بها أردوغان مودّعاً السيسي، عندما كان الأخير يصعد سُلّم الطائرة عائداً إلى القاهرة. زعمت هذه المواقع أنّ الرئيس التركي لوَّح بعلامة رابعة، وأنّه لم يكن يُلوِّح بأصابعه الخمسة كاملةً، بل بأربعة منها فقط (!)

تجاهلت هذه المواقع ما دار بين البلدين منذ ثلاثة أعوام من مباحثات وتفاهمات وزيارات، تكلّلت بزيارة أردوغان نفسه إلى القاهرة في فبراير/ شباط 2024، ثمّ عشرات الاتفاقيات التي وُقِّعت على مستوى الوزراء والرؤساء، وبعد ذلك كلّه، تحاول هذه المواقع التشبّث بصورة ثابتة لا تدلّ على أيّ شيء، لتحاول الإيحاء بأنّ الموقف التركي لم يتراجع، ولم يُقدِّم التنازلات. فالواقع أنّ ما يجري تنازل واضح وصريح من أنقرة تجاه القاهرة، خاصّةً مع التشديد التركي مراراً وتكراراً، خلال العقد الماضي، على عدم إمكانية التفاهم مع النظام المصري بعد عزل الرئيس الراحل محمد مرسي (يوليو/ تموز 2013)، وإطلاق مئات التصريحات بهذا الخصوص، واستضافة قيادات من المُعارَضة المصرية، بالإضافة إلى آلاف المصريين الآخرين، وإطلاق قنوات فضائية من الأراضي التركية عن الشأن المصري. لذلك، لا يُمكن، في أيّ حال، ادّعاء أنّ شيئاً لم يتغيّر، خصوصاً إذا اعتمد هذا الزعم على مُجرَّد صورة تحاول الإيحاء بانتصار صوري. كما أنّ الأصابع الأربعة، التي رفعها أردوغان مراراً خلال السنوات الماضية، هي إشارة تعني أنّ لدى الأتراك أربعة ثوابت وطنية، هي شعب واحد، وعلم واحد، ووطن واحد، ودولة واحدة، فحتّى هذا الانتصار الصوري لم يتحقّق.

يشبه هذا الجدل الخاص بإشارة رابعة جدلاً سابقاً اشتعل بسبب صورةٍ للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال حضوره قمّة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، التي عُقدت في ليتوانيا (يوليو/ تموز 2023)، إذ ظهر زيلينسكي وحيداً في أثناء التقاط الصورة التذكارية للرؤساء المشاركين في القمّة وزوجاتهم. نشر بعضهم هذه الصورة ساخرين من زيلينسكي، ومنطلقين منها إلى نظريات سياسية جبّارة، وضعوها اعتماداً على تلك الصورة، من قبيل أنّ حلف الناتو تخلّى عن أوكرانيا التي تقف وحيدةً في مواجهة روسيا، وأنّ نتيجة قمّة الحلف لم تُرضِ الرئيس الأوكراني، ولذلك ظهر غاضباً في الصورة.

إذا كان الصحافيون، المفترض أن يُفنِّدوا الأكاذيب، قد وقعوا ضحية لها، فماذا نتوقّع من الجمهور العادي؟

وبغضّ النظر عن أن زوجة زيلينسكي كانت واقفةً في جواره مباشرة، وأنّه لم يكن وحيداً كما ادّعى مُروّجو الصورة، إلّا أنّنا لو افترضنا أنّه كان وحيداً، فهل تُلغي هذه الصورة حقيقةَ الدعم الذي حصلت عليه أوكرانيا طوال السنوات الماضية من الغرب؟... لقد حصلت على عشرات مليارات الدولارات، في صورة أموال وأسلحة وتدريبات ودعم استخباراتي ولوجستي وإنساني، لأنّ الغرب مهتمّ بألّا تسقط أوكرانيا، وبأنّ تظل روسيا منشغلةً وغارقةً في هذه الحرب أطول فترة ممكنة، وذلك بهدف استنزافها وإشغالها عن إشعال أيّ جبهات أخرى في أوروبا أو الشرق الأوسط أو آسيا. وبالفعل، تُخبِرنا الأرقام أنّ كييف حصلت على دعم غير مسبوق. وفي هذه القمّة تحديداً، تعهّد أعضاء حلف شمال الأطلسي لأوكرانيا بتقديم ضمانات أمنية جديدة لتعزيز دفاعاتها أمام روسيا، وتدفّقت أسلحةٌ غربيةٌ جديدةٌ على كييف، استخدمتها في غزو الأراضي الروسية نفسها، وفي قصف مواقعَ عسكرية لم تكن تصل إليها مسبقاً. وفي إبريل/ نيسان الماضي، أقرّ مجلس النواب الأميركي قراراً واحداً فقط؛ مساعدات لكييف بقيمة 61 مليار دولار، فلنا أن نتخيّل حجم باقي المساعدات منذ اندلاع الحرب في فبراير/ شباط 2022.

تُذكِّرنا إذاً هاتان الواقعتان، فيما يتعلّق بكلّ من تركيا وأوكرانيا، بالتحدّيات التي تُسبّبها مواقع التواصل الاجتماعي، وتحديداً فيما يتعلّق بتجميد لحظة واحدة من الزمن، ونشرها، والانطلاق منها إلى صياغة نظريّات وفرضيّات وتحليلات لا أساس لها في أرض الواقع، خاصّة أنّ عديدين من الصحافيين والمذيعين ووسائل الإعلام وقادة الرأي وقعوا (وما زالوا يقعون) في فخّ هذه الأخبار الزائفة، وهو ما يُصعّب مهمّةَ مواجهتها، فإذا كان الصحافيون، الذين من المفترض أن يُفنِّدوا مثل تلك الأكاذيب، قد وقعوا ضحية لها، فماذا نتوقّع من الجمهور العادي، الذي لا يمتلك أدوات (ومهارات) التحقّق من صحّة المعلومات؟

D90F1793-D016-4B7E-BED2-DFF867B73856
أسامة الرشيدي

صحفي وكاتب مصري، شارك في إنجاز أفلام وحلقات وثائقية عن قضايا مصرية وعربية، وكتب دراسات ومقالات نشرت في مجلات ومواقع إلكترونية.