كورسك... اختبار الدعم الغربي لأوكرانيا
في تحوّل دراماتيكي للأحداث، بعد فشل هجومها المضادّ العام الماضي، قرّرت أوكرانيا تغيير تكتيكاتها وشنّ هجوم استباقي في الأراضي الروسية، في عملية كورسك التي تمثّل تحوّلاً كبيراً في سير العمليات القتالية، إذ انتقلت المبادرةُ من الجانب الروسي إلى الجانب الأوكراني. وتسلّط هذه الخطوة الجريئة الضوءَ على القدرات العسكرية الأوكرانية في التكيّف مع الظروف المُتغيّرة.
تثير النجاحات الأولية، التي حقّقتها كييف في هذا الهجوم تساؤلاتٍ عن مستقبل الصراع، وتفتح البابَ أمامَ سيناريوهاتٍ جديدةٍ لم تكن في الحسبان، فالواضح أنّ الهجوم الأوكراني على كورسك ليس مُجرَّد عمليةٍ عسكريةٍ عابرةٍ، بل قد تكون له تداعياتٌ بعيدةُ المدى على مسار الحرب بأكملها. يمثّل هذا الحدث تحدّياً كبيراً للقيادة الروسية، كما أنّه يزيد من الضغوط على الغرب لتقديم مزيد من الدعم العسكري والسياسي لأوكرانيا، ويأتي في سياق الصراع السياسي والدبلوماسي المستمرّ بين موسكو وكييف، وبين موسكو والغرب.
كان للهجوم الأوكراني داخل الأراضي الروسية أثرٌ بالغٌ في تحوّل مسار الحرب، فمن ناحية، عزَّز الروحَ المعنويةَ للجيش الأوكراني، وبعث رسالةً قويةً للغرب بشأن قدرة أوكرانيا في المبادرة الهجومية. ومن ناحية أخرى، أثار هذا الهجوم ردّات فعل متباينة في روسيا، فأدّى إلى حالةٍ من القلق والتوجّس. ورغم ذلك، فإنّ استدامة زخم هذا الهجوم ونجاحه في المدى الطويل مرتبطان بشكل كبير بمدى استمرار الدعم الغربي العسكري والسياسي.
أضاف هجوم كورسك مزيداً من الوقود إلى نيران الحرب، ما يُشير إلى أنّ الأوضاع قد تزداد تعقيداً في الفترة المقبلة
وصحيح أنّ هجوم كورسك أظهر قدرةَ كييف على الدفاع عن نفسها، إلّا أنّ هذا التصعيد العسكري قد يُؤدّي إلى ردّات فعل روسية عنيفة، ما يزيد من حدّة الصراع، ويُهدّد بجرّ المنطقة إلى أتون حرب أوسع نطاقاً. وبالتالي، يتوقف نجاح هذه العملية على عوامل عدّة، أبرزها تقديم أسلحةٍ غربيةٍ مُتطوِّرةٍ لأوكرانيا، وتجنّب التصعيد المُتهوِّر من الطرفَين.
وأثار توغّل أوكرانيا في كورسك ضجّةً إعلاميةً واسعةً، فأظهر مدى تصعيد الصراع وتوسّع رقعة المعارك، وتباينت الآراء حول أهدافه وتأثيره، وهذا الحدث قد ألقى بظلاله على مسار الصراع، إلّا أنّه من المُبكّر جدّاً استخلاص النتائج النهائيةِ لهذه العمليةِ العسكريةِ المُعقَّدة، وتعتمد على عديد من المتغيّرات الداخلية والخارجية.
دحضت أوكرانيا الاعتقادَ السائدَ أنّ التكنولوجيا الحديثة قد قضت على عنصر المفاجأة في الحروب، وأنّه حتّى في عصر الذكاء الاصطناعي والطائرات من دون طيّار، لا يمكن التنبّؤ بتحركات العدوّ كلّها، وعنصر المفاجأة لا يزال سلاحاً قوياً في ترسانة أيّ جيش.
قد يكون توغلّ القوّات الأوكرانية في كورسك بمثابة سيفٍ ذي حدَّين، فبينما تسعى كييف إلى تحقيق انتصارات ميدانية، فإنّها تُخاطر بتقويض مكاسبها في مناطقَ أُخرى، فإذا لم تتمكَّن من إجبار روسيا على تغيير استراتيجيتها، فإنّها ستكون قد استنزفت مواردَها العسكريةَ وأضعفت قدرتَها في الدفاع عن المناطق الأكثر أهمّية في شرق أوكرانيا، ممّا قد يُؤدّي إلى خسائرَ إقليميةٍ كبيرةٍ.
توغل القوّات الأوكرانية في كورسك قد يكون بمثابة سيفٍ ذي حدَّين
أجبرت إعادةُ تمركز القوّات الروسية في كورسك الزحفَ الأوكراني على التباطؤ، محوّلةً زخم الهجوم الأوّلي إلى صراع استنزاف، وأفشلت المحاولة الأوكرانية السريعة في تحقيق اختراق حاسمٍ في هجومها المفاجئ، وأظهرت هذه المواجهة أنّ أيّ تقدّم مستقبلي في المنطقة سيتطلّب من القوّات الأوكرانية بذل جهود مضاعفة في مواجهة دفاعات روسية أكثر تحصيناً ومرونةً.
تتصاعد حدّة الصراع في أوكرانيا بشكل مُتسارع، فتتبادل القوّات الأوكرانية والروسية الضربات في جبهات متعدّدة، ففي الوقت الذي تسعى فيه القوّات الأوكرانية إلى توسيع رقعة العمليات، تشن القوّات الروسية هجماتٍ متتاليةً في شرق أوكرانيا، وقد أضاف هجوم كورسك مزيداً من الوقود إلى نيران الحرب، ما يُشير إلى أنّ الأوضاع قد تزداد تعقيداً في الفترة المقبلة.
تتشابك اليوم، أكثر فأكثر، خيوط هذه الحرب المُعقَّدة، ويصعب فصلها أو تحديد مسارها المستقبليّ في ظلّ التطوّرات الميدانية المُتسارِعة، ونظراً لسلاسة وتغيّر المشهد العسكري، من الصعب في هذه المرحلة تحديد الأثر بعيد المدى للتكتيكات المتباينة التي يتّبعها كلٌّ من روسيا وأوكرانيا.
تواجه أوكرانيا مُعضلَةً صعبةً تتطلّب اتخاذَ قرارات حاسمةٍ، فالتنازلات المُحتملةُ في دونباس، وتأثير هجوم كورسك، والردّ الروسي المتوقّع، فضلاً عن الدعم الغربي المتوفّر، كلّها عوامل ستُؤثّر بشكل مباشر في مسار الحرب، وتُحدّد الخياراتِ المُتاحةَ أمام كييف، وببساطة، أوكرانيا تقف أمام مُفترقِ طرقٍ، في رُقعة شطرنج مُعقَّدةٍ تتطلّب منها تحريك قِطَعِها بحذر شديد، مع مراعاة تحرّكاتِ خصومها ودعم حلفائها.
سوف تعطينا الأسابيع المقبلة مزيداً من الرؤى بشأن ما إذا كانت الاستراتيجيات الأوكرانية أو الروسية، في حملتَين رئيستَين متزامنتَين (روسيا في شرق أوكرانيا، وأوكرانيا في كورسك) سوف تنجحان، ولكن كما هي الحال مع الحروب كلّها، فإنّ التنبّؤ بالنتيجة النهائية لهذه المعضلة يظلُّ مستحيلاً.