كوانتين تارانتينو يلتقط الصور مع القَتَلة
ماذا يفعل المخرج الأميركي كوانتين تارانتينو؟ يعيش في تل أبيب مع زوجته المغنّية الإسرائيلية دانييلا بايك منذ نحو سنتين. أعلن اعتزاله العمل السينمائي قبل فترة، وكان الظنّ أنه سيتراجع أو يتفرّغ للتجوال بين المهرجانات السينمائية في العالم، مكتفياً بمجدٍ فنّيٍ حققه عام 1994، حين أخرج فيلمه "بالب فيكشن"، وكرّس فيه أسلوبه الخاص والمتميّز، لكنه لم يفعل. ظلّ في تل أبيب مستمتعاً برفاهية العيش هناك، غير بعيدٍ عن حياة ملايين الفلسطينيين الكارثية التي قامت تل أبيب وسواها على أنقاض حيواتهم ومدنهم التي كانت زاهرةً قبل احتلالها من آباء زوجته وأمثالها وأجدادهم. وليتَه (تارانتينو) اكتفى بهذا، بل إنه هرع، أخيراً، إلى إحدى القواعد العسكرية الإسرائيلية في غلاف غزّة، والتقط الصور مع الجنود هناك وخلفه طيارة حربية، وذلك بعد يومين أو ثلاثة من بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة.
ليس ثمّة شعور بالذنب لديه، بل بالواجب، فلم تكن الزيارة لالتقاط الصور، بل للتضامن والمساندة، وللقول إن حرب هؤلاء الجنود هي حربُه الشخصية، فأي سقوطٍ هذا لفنّانٍ يُفترض أن ينحاز إلى الضحايا! لكنه وإنْ لم يفعل لم يصمت على الأقل، بل جاهر بتأييده واحدةً من أشرس الهجمات العسكرية في التاريخ الحديث على واحدةٍ من أكثر المناطق اكتظاظاً وفقراً وامتلاكاً لقضية هي الأكثر عدلاً في العالم.
لا يريد أن يرى. ربما يكون هذا من حقّه. يريد أن يقيم في تل أبيب، ربما أيضاً من حقّه. ولكن ألا يريد أن تمرّ محرقة الغزّيين أمام عينيه من دون أن يشارك فيها إعلامياً ومعنوياً، فتلك ليست سقطة أخلاقية وحسب، بل جريمة وعار سعى إليهما بنفسه، وهو يبتسم مع الجنود الذين سيقصفون غزّة بعد أن يغادرهم بدقائق.
لدى تارانتينو طفلان من زوجته الإسرائيلية، فهل شاهد صورة الطفلة الغزّية ميرا؟ كتب خالد جمعة، وهو كاتب فلسطيني من غزّة، سطراً واحداً وحسب عن ميرا قريبته: "هذه ميرا. لقد كانت في الصفّ الثاني وستظل فيه إلى الأبد". هل يعرف تارانتينو معنى ذلك؟ أظنّه يفهم الاستعارات، وإذا لم يكن، فالمعنى أن ميرا قُتلت، والأموات لا يكبرون، يا تارانتينو. يظلّون في العمر نفسِه الذي ماتوا فيه، ومن قتلها هم أصدقاؤك الذين التقطتَ الصور معهم أو أشباههم، ولقد قتلوها من دون أن يروا صورتها وهي تبتسم بسنّها المكسورة، وتنظر إلى العالم، علّه يرعى طفولتها ويحميها.
لم ير تارانتينو صورة ميرا لأنها فلسطينية، ولأنها من غزّة حيث على الفلسطينيين هناك أن ينتحروا جماعياً كيلا يزعجوا سكان "الفيلا" التي هي إسرائيل. لم ير أيضاً، وربما لم يسمع باسم دلال أبو آمنة، الفنانة الفلسطينية التي اعتقلتها الشرطة الإسرائيلية، بينما هو يطلّ من شرفة شقّته في تل أبيب، وهو يشعر بالغضب لأن أصدقاءه في جيش يوشع بن نون لم يجتاحوا غزّة بعد. هل تعرف أن أبو آمنة، الجميلة، هي فنانة مثلك؟ ومغنّية مثل زوجتك؟ وأنها تحمل الجنسية الإسرائيلية لتبقى في بلدها وعلى أرض أجدادها؟ وأنها ليست فنانةً فقط، بل باحثة أكاديمية في علوم الدماغ والأعصاب في معهد تخنيون؟ هل سبق لك أن سمعتها وهي تغنّي بلادها التي وُلدت فيها هي وأجدادُها عبر التاريخ؟ هل تعرف معنى الأسى في ألا تكون حرّاً على أرضك، وأن ترى أبناء شعبك يُقتلون أمامك؟ جرّب واسمع مرّة واحدة لهذه الفلسطينية وهي تغنّي، لتعرف أنك تقف في الجانب الخطأ من التاريخ، من الإنسانية، من أن تكون حقيقياً لأنك ترى سواك، وتشعر بآلام روحه وتمزّقاته العنيفة والحزينة.
لا أريد أن أتلو عليك سلسلةً لا تنتهي من ضحايا جيش الدفاع! الذي لم يفعل في تاريخه سوى أن يُهاجم ويعتدي ويقتل ويهجّر. لا أريد أن أحدّثك عن هبة زقوت التي قُتلت مع أبنائها قبل أيام بصواريخ أصدقائك الذين ذهبت إليهم إلى منطقة غلاف غزّة والتقطت الصور. لم تبلغ هبة الأربعين من عمرها، يا تارانتينو، وإليك صورتها: امرأة جميلة بحجابٍ لم يمنعها من أن تكون فنانة تشكيلية. في واحدة من لوحاتها الأخيرة ثمّة امرأة تحمل حمامة بيضاء. لا يقتل أصدقاؤك الحمام على سطوح البيوت الآن يا تارانتينو فقط، يقتلون الجميع هناك في غزّة، الجميع، الجميع، الجميع. هل تفهم؟!