كوارث سوريا الكبرى وتحرير فلسطين
صار يعيش في هذه المنطقة، التي كانت تسمى "سوريا الكبرى" (فلسطين، وسورية، ولبنان، والأردن، والعراق)، نوعٌ من البشر لا يهتدي إلى أي فعلٍ يدل على وجوده في هذه الحياة إلا فعل القتل. وكأنَّه بالضبط ذاك الفاشي الذي كتب عنه محمود درويش في "مديح الظل العالي"، الذي "يخرُج من جسد الضحية/ يرتدي فصلًا من التلمود: أقتل كي تكون". ولهذا النوع من البشر منهجٌ واحدٌ وله وجهان: المنهج هو القتل، ومقاربة الآخرين بوصفهم "حيواناتٍ بشرية" بتعبيرات وزير الدفاع الإسرائيلي؛ يوآف غالانت، ووجهه الأول إسرائيل ومنتفعاتها من العرب؛ والوجه الثاني إيرانيٌ يضم نظام الأسد، وحزب الله، ومنتفعاتهم من العرب وغيرهم من أفغانٍ وباكستانيين يقاتلون في أرضنا لكي "لا تُسبى زينب مرّتين"، وما إلى هنالك. ويبدو اليوم أن هذين الصِنفين من البشر لا يتسلحان بصورة أساسية بالبنادق، ولا بالدبابات والصواريخ والترسانات، مع أنها كثيرةٌ لديهم؛ بل سلاحهم الأساسي الأسطورة والبكاء. يعني أنهم يتسلحون باستحضارٍ دائمٍ زائفٍ للماضي بموجب سرديةٍ أيديولوجيةٍ دينيةٍ هادفةٍ تتضمّن البكاء الذي يؤدّي، في النهاية، إلى القتل! وبتعبيرات درويش مرّةً أخرى، هذا نوعُ البشر الذي "كان يخفي سيفه في دمعته" أو "كان يحشو بالدموع البندقية"، نوعٌ "يعلم أن البكاء سلاحه الذرّي والسرّي".
ولا يأتي المرء بجديدٍ بهذا التصوّر، ولكن يعكس واقع سوريا الكبرى التي صارت كالآتي: فلسطين المُحتلة، وسورية المُحتلة، ولبنان المحتلة. لا تتوقف الكارثة هنا، بل ثمّة كارثةٌ تتعدّى هذا الشغف برقصة الموت، الكارثة أن ثمّة نوعا ثانيا من البشر لم يبق شيءٌ يدلّ على حياته إلا أنه يموت؛ فإذا كان النوع الأول يُوقِّع أفعاله بـ "نحن نقتل إذًا نحن موجودون"، فإن الثاني يوقع بـ "نحن نموت إذًا نحن موجودون"؛ وثمّة تحت هذا التوقيع الأخير طيفٌ واسع من الناس الطيبين الجميلين: أطفالٌ أبرياء، وأمهاتٌ، وعجائزٌ، ودراويش، وآباء يشقون، وجميعهم يمتلك شجاعةً لا توصَف، شجاعة العاديين الذين صارت حيواتهم لا تُعرَّف إلا بدلالة موتهم فحسب. والحياة بدلالة الموت قدرُ الذين لا يمتلكون سياسةً تدلّ عليهم في عالمِ الدول عندما يهزم الضمير الإنساني أو يُخفق لمصلحة "رب الجنود" أو لمصلحة الولي الفقيه.
مُستشفى المعمداني مثال أنموذجي ساخن وجديد، يُضاف إلى أمثلة أخرى، منها المشافي الكثيرة التي قصفتها روسيا وإيران والنظام في سورية بصمت أميركي
هؤلاء العاديون ضحيَّةُ كارثةٍ ثانية توازي ابتلاءنا بإسرائيل وإيران الخمينية ومنتفعاتهما: إنها كارثة غياب السياسة في سوريا الكبرى، التي لم تدع مؤشرًا يدل على وجودنا في هذا العالم إلا أننا لا نزال نموت بقذيفةٍ فوق رؤوسنا، ونحن في أرضنا وفي بيوتنا من شدّة ركاكة من يمثل قضايانا الكبرى سياسيًا. لا تبرّر هذه المقاربة انحطاط العالم أمام المجزرة المستمرّة، ولا تُبرّئ انهيارَ مفهوم الإنسان أمام ما يحدُث في غزّة، وأمام الذي حصل في سورية كله؛ ولكنها مقاربة تنظر إلى الشيء الذي بين أيدينا غير البندقية، الشيء الذي كنّا جميعًا نستهين دائمًا بقدرته الجبّارة على تحقيق أحلامنا وحريتنا: أي السياسة بوصفها الضغط على النفس والعقل كثيرًا بالتوازي مع الضغط على الزناد قليلًا. إن الشيء الذي تشير إليه أسماءٌ أنتجها نظريًا مشروع التحرّر، مثل محمود عبّاس وهادي البحرة، هو أن سوريا الكُبرى فقيرةٌ جدًا بالسياسة، والفقير بالسياسة عندما يُقتَل لا يترك قتله أثرًا، ولا أحدٌ يُحاسِب قاتِلَه، وعندما يضغط على الزناد دفاعًا عن نفسه بعد اليأس، يُعرِّض نفسه للخطر وقد يتخلى عنه الجميع. وإن لغة "من شان الله احمونا" هي لغة المتسوّلين، وليست لغة السياسيين. والعَسكرة من دون سياسة موتٌ هنا، وموتٌ هناك، وضجيجٌ قد يكون مهمًا في لحظةٍ معينة، ولكنه بالتأكيد غير كافٍ لنيل الحرية. يبدو هذا واحدًا من دروس ثلاثة أرباع قرنٍ من نضال الفلسطينيين ضد إسرائيل، وهو درسٌ تكرّر في مشروع التحرر من الديكتاتوريين المحليين وأمراء الحرب في الحالتين السورية واللبنانية تحديدًا. ومع ذلك، لا يزال هذا الدرس يستفزّ كثيرين الذين يرفضون تعلمه، وهذا سؤالٌ يحتاج إلى تفكير عميق: لماذا تكفر الناس الثائرة والشجاعة بالسياسة؟! قد يطول الحديث في الإجابة عن هذا السؤال، ويأخذنا خارج السياق. ولكن احتقار التفكير، وغياب السياسة العاقلة لمصلحة الركاكة، يظلّ أمرًا يؤدّي، بالضرورة، إلى تحرّرٍ من كل مسؤولية، ومن ثم تصير الأمور تدار بمنطق "الهبش": "هبشةٌ" من هنا، و"هبشةٌ" من هناك.
في سوريا الكبرى ثلاثةَ شرورٍ كارثية: إسرائيل، والولي الفقيه، وغياب السياسة
في الأحول كلها، لا تكتمل هذه المقاربة من دون النظر إلى بعدها العالمي الراهن الذي يشهد انهيار مفهوم الإنسان؛ فحكومات الدول الخمس الكبرى، صاحبة الفيتو في مجلس الأمن، كلها صارت تعيش فوق أنقاض هذا المفهوم. ولا يزال مُمكنًا، في هذا السياق، أن نشارك أميركا في النقاش بشأن القلق على سلامة أسرى إسرائيل لدى "حماس"، أو الرهائن كما تحبّ أن تسمّيهم، وأن ندخل إلى هذا النقاش بطريقة أميركية قديمة كالآتي: إن مُعتقلًا من معتقلي غوانتانامو مثلًا، كان كائنًا منزوعَ الفردية، ولم يعد يُصنَّف فردًا بعد بناء حالة استثناء قانوني بموجب قانون مكافحة الإرهاب المعروف بـ (Patriot Act) الذي أصدره مجلس الشيوخ الأميركي في أكتوبر/ تشرين الأول 2001. وقد رأى جورجيو أغامبين أن هؤلاء الأسرى الذين عاملتهم الولايات المتحدة في حينه بوصفهم مجرد معتقلين بحكم الأمر الواقع فحسب، أي خارج أي اتفاقات قانونية وأعراف مثل اتفاقية جنيف لأسرى الحرب، لا يشبههم أحدٌ إلا اليهود في المحتشدات النازية، حيث فقدوا كل عناصر الهوية القانونية، وأخذوا وضعية "الحياة العارية" (Bare life)، ولكن التاريخ الراهن يزوّدنا بشبيه جديدٍ آخر لما حصل في غوانتانامو والمحتشدات النازية، فظيعٌ بما يكفي ليكون في لوحة الحياة العارية العالمية التي يشارك في رسمها الجميع: إنه مُستشفى المعمداني بوصفه مثالًا أنموذجًيا ساخنًا وجديدًا، يُضاف، بطبيعة الحال، إلى أمثلةٍ أنموذجيةٍ أخرى، منها المشافي الكثيرة التي قصفتها روسيا وإيران والنظام في سورية بصمت أميركي عنها. وبطبيعة الحال، يمتلك العربي العادي ما يكفي من المسوّغات ليفترض أن ذهنية غوانتانامو قد تكون مهّدت لإمكانٍ حقيقي لوجود صورٍ مرعبة، مثل التي رأيناها في مشفى المعمداني أو في ملفّ قيصر مثلًا، وقد يسهم هذا النوع من التفكير، إذا أضفنا إليه تداعيات غياب السياسة الكارثي، في التقليل من صدمة أبناء المنطقة من دعم الولايات المتحدة اللامحدود لإسرائيل في كل مرّة.
أخيرًا، نقول إن في سوريا الكبرى ثلاثةَ شرورٍ كارثية: إسرائيل، والولي الفقيه، وغياب السياسة. زوال الثالث يعني أن يصير للجنود المكشوفين متراسٌ، ويعني بالضرورة بداية زوال الاثنين الباقيين، والبدء في تحرير فلسطين، وسورية، والعراق، ولبنان.