كنتُ في سبتة
"أنا مسلم إسباني" .. أجابني سائق السيارة التي أقلتني من نقطة الحدود الإسبانية التي تفصل مدينة سبتة عن باقي الأراضي المغربية، عندما سألته عن جنسيته. مساحة سبتة 19 كم، ويسكنها حوالي 80 ألف نسمة حسب إحصاء 2011، ويعتنق معظم سكانها الديانة المسيحية والإسلامية وهناك أقليتان هندوسية ويهودية. كانت المدينة قاعدة الغزو الإسلامي لإسبانيا بقيادة طارق بن زياد، فكان من الطبيعي أن يرتبط سقوطها بضعف إمارة بني الأحمر في غرناطة في القرن الخامس عشر الميلادي، إضافة إلى ضعف دولة بني مَرين في فاس. شكّل سقوطها في يد البرتغال سنة 1415 أول احتلال أجنبي لأرضٍ مغربية في تاريخه الإسلامي، وبداية توسّع الدولة الإيبرية في سواحله. وعلى إثر اعتراف إسبانيا باستقلال البرتغال، تنازلت الأخيرة عن سبتة لإسبانيا سنة 1668. على عكس باقي الدول العربية، تعرّض المغرب لاحتلال مُركّب، إذ احتلت شماله كل من فرنسا وإسبانيا سنة 1912، وأُخضعت مدينة طنجة إلى نظام دولي من سنة 1923 إلى حدود 1956، واحتلت إسبانيا أراضيه الجنوبية أيضا، بما في ذلك ثغرا طرفاية وإفني اللذان استرجعتهما الرباط في عامي 1958 و1969 تباعا، وظلت مدينتا سبتة ومليلية والجزر الجعفرية في البحر الأبيض المتوسط تحت السيطرة الإسبانية. وعند حصول المغرب على استقلال جزئي سنة 1956، طالب بسيادته على "الجيبين"، لكن الأمم المتحدة لا تعتبر المدينتين مستعمرتين.
كانت تعريف السائق نفسه أولى ملاحظاتي في زيارتي هذه المدينة الاستراتيجية التي تطل على مضيق جبل طارق من ناحية الأراضي المغربية، وتعتبرها إسبانيا جزءا من حدودها، بينما يعدّها المغرب امتداداً طبيعياً لجغرافيته وثقافته وبيئته وقوميته. لم يذكر سائق السيارة لي شيئاً عن مغربيته أو أمازيغيته أو حتى عروبته التي تحدّث معي بلغتها بطلاقة. كان من الواضح لي أن البعد الاقتصادي هو العامل الحاسم في صراع الهويات عندما تتصارع أو تتنافس (مغربية، أمازيغية، إسبانية، عربية) فمتوسط دخل الفرد في سبتة هو حوالي 1200 يوريو شهرياً مقابل ما يعادل 450 يورو في المغرب، فمن الطبيعي للبعد الاقتصادي أن يُقصي البعد الهوياتي الآخر، عندما يتعلق الأمر بلقمة العيش والنشاطات الاقتصادية المرافقة والانتماء للفضاء الأوروبي الواسع المتمتع بحقوق المواطنة والديمقراطية واحترام الرأي الآخر.
لا توجد استراتيجية مغربية واضحة لاستعادة سبتة وأخواتها، رغم أزمات ديبلوماسية مع إسبانيا نشأت بعد أحداث كبرى
اللافت للنظر أن البعد الاقتصادي المتمثل بالهوية الإسبانية لم يُقص البعد الديني في الهوية، لا بل تقدّم الديني حينما عرّف السائق نفسه بأنه مسلم أولاً، ثم إسباني ثانياً، ما يثير تساؤلاتٍ في أن التناقض الهوياتي بين الدين والقومية عندما يحدُث قد يفضي إلى غلبة الدين. ولكن علينا أن نلاحظ أيضاً أن التعايش ما بين الهويتين، الدينية والقومية، على الأقل في حالة السائق، ممكن، حتى ولو تقدّمت الدينية، في حين أن التعايش بين قوميتين قد يصبح أكثر صعوبة. وتُولي إسبانيا أهمية كبرى لهذا المحدّد الديني، خصوصا وأن نسبة المسلمين المنحدرين من أصول مغربية آخذةٌ في الازدياد، وأصبحت تقترب من نسبة المسيحيين، وتخشى مدريد أن يتحوّل مسلمو سبتة ومليلية إلى أغلبيةٍ ستشكل حتما خطرا على سيادة إسبانيا على المدينتين.
لا توجد استراتيجية مغربية واضحة لاستعادة سبتة وأخواتها، رغم الأزمات الديبلوماسية التي نشأت بعد أحداث كبرى، كالزيارة التي قام بها الملك الإسباني خوان كارلوس عام 2007 إلى مدينتي سبتة ومليلية، ما أثار استياءً مغربياً تمثل باستدعاء المغرب سفيره في مدريد للتشاور. وعلى المستوى الشعبي، نظمت اعتصامات أمام السفارة الإسبانية في الرباط. وفي عام 2020، أدّت تصريحات لرئيس الوزراء المغربي، سعد الدين العثماني، عن البدء بنقاش لتحديد مصير سبتة ومليلية، وأن هذا الملف معلق من ستة قرون، ولا بد من أن يُفتح يوماً ما إلى استياء إسباني تمثل، هو الآخر، بدعوة السفيرة المغربية في مدريد لتقديم إيضاحات. تستند إسبانيا في حقها في المدينتين إلى أن السيطرة عليهما قد تمت في القرن الخامس عشر، أي قبل تأسيس القانون الدولي بصيغته الحالية. وبالتالي، لا ينطبق القانون على المدينتين. ومع ذلك، يمكن القول إن الموقف المغربي من المدينتين لا تظهر عليه ملامح التعب والاستعجال، وإنما هو نزاعٌ مُؤجّلٌ وليس مُهملا.
حديثاً وقبل أسابيع، أعلنت الحكومة الإسبانية، وفي سابقة تاريخية، أنها ستحوّل مدينتي سبتة ومليلية إلى مركز رسمي للجمارك، وأنه سيطلب من ساكني محافظة تطوان في المغرب تأشيرات من أجل دخول سبتة، حيث كانوا يتمتّعون بامتيازاتٍ في السابق بدخولها من دون تأشيرة. اتّسم الموقف المغربي بالصمت إزاء هذا الإعلان الذي يأتي قبل أيام من القمة المغربية - الإسبانية التي يعنى بها المغرب كثيراً، خصوصاً بعد توتر العلاقات مع فرنسا. يُضعف من الموقف المغربي في قضية سبتة ومليلية أن الأمم المتحدة لا تعتبرهما جزءًا من مناطق تصفية الاستعمار في العالم. طالَب المغرب بالسيادة على سبتة ومليلية، وحاول إدراجهما في لائحة "الأراضي غير المتمتعة بالحكم الذاتي" في 1957، لكن الأمم المتحدة لم تستجب لهذا الطلب، لأنها لا تعد المدينتين مستعمرتين. ولكن متى كانت تصفية الاستعمار تتم من خلال أروقة الأمم المتحدة؟ الاستعمار الاستيطاني متعدّد الأوجه ومتشابك فيما بين منطقة وأخرى. وعلى هذا الأساس، يتم الربط ما بين إنهاء الاستعمار الإسباني في سبتة ومليلية بالاستعمار البريطاني في مدينة جبل طارق التي تسيطر بريطانيا عليها، وتعدّها جزءا من المملكة المتحدة، رغم التواصل الجغرافي والتاريخي لهذه المدينة مع إسبانيا.
ترتكب الحكومة المغربية خطأً فادحاً إن قبلت بربط مصير سبتة ومليلية بمصير المستعمرة الإنكليزية على الأراضي الإسبانية المتمثلة بمدينة جبل طارق
ترتكب الحكومة المغربية خطأً فادحاً إن قبلت بربط مصير سبتة ومليلية بمصير المستعمرة الإنكليزية على الأراضي الإسبانية المتمثلة بمدينة جبل طارق، أو حتى الحديث عنهما في آن واحد. الاستعمار لا يقايَض ولا يساوم ولا يهادِن، بل يقاوم بالطرق المتاحة في الزمان والمكان المناسبين. مرّة أخرى، يكون الاستعمار البريطاني سبباً في إيجاد صراعات دولية أو تفاقمها. فوجوده في مدينة جبل طارق المطلّة على المضيق يعقّد من وضع سبتة ومليلية بكل تأكيد على الأقل بالنسبة لإسبانيا. الاستعمار لا يبرّر أيضاً، فكيف يتم تبرير وجود مدينة جبل طارق التي تبعد آلاف الأميال مثلها مثل جزر فوكلاند عن لندن بأنها جزء من أراضي المملكة المتحدة. ولنتذكّر أن المقايضة قد تنتهي، في أحيان كثيرة، إلى خسارة الطرفين.
الاستعمار الاستيطاني مرفوض من حيث المبدأ، سواء كان في سبتة ومليلية أو في جبل طارق أو في أي مكان آخر. للمغرب أولوياته في السياسة الخارجية، وفي الملفات التي يقرّر. ومن المفهوم أيضاً أن سبتة ومليلية لا تحتلان أولوية بالنسبة للمغرب في الوقت الراهن. صحيحٌ أن الأمر محكوم في موازين القوى بمستوياته العسكرية والاقتصادية، وهو الذي دعا سائق التاكسي إلى تعريف نفسه بأنه مسلم إسباني، ولكن الطرف الضعيف يبقى يملك ورقة الشرعية التي بدونها لا يمكن تطبيع الاستعمار الاستيطاني، فالمهم أن لا يحدُث الاعتراف بالاستيطان، سواء بالمقايضة أو غيرها، مهما طال الزمن، وهو تماماً كما فعل الفلسطينيون، رغم ضعفهم الشديد، بالتمسّك فقط برفض صفقة القرن المشؤومة، رغم ما قدّم لهم من إغراءات اقتصادية (50 مليار دولار) ومورست عليهم من ضغوط وتهديدات، فكان مصير الصفقة الفشل، حتى مع مهادنة بعض الأنظمة العربية وتساوقهم مع وعودها الكاذبة. ليس المتوقّع من المغرب فتح جبهة مع إسبانيا في موضوع سبتة ومليلية في الوقت الراهن، بسبب المتغيرات الكثيرة التي تحكُم المعادلة الإقليمية في شمال أفريقيا وجنوب أوروبا، ولكن عدم الاعتراف بشرعية الاستعمار يُبقي الملف مفتوحاً للمستقبل، حتى لو لم تكن هناك متابعة له في الوقت الحالي.
هو هكذا الاستعمار الاستيطاني، يبرع في إقامة المدن مشوّهة الهوية، فلا هي انسلخت عن هويتها الثقافية الأصلية. وفي الوقت نفسه، لم تعانق هوية المدن الدخيلة عليها. أتمشّى في سبتة، فلا أستطيع وضعها في قالب هوياتي مألوف لدي، فهي لا تشبه المدن الإسبانية الأخرى التي زرتُها سابقاً، وفي الوقت نفسه، هي لا تشبه الرباط ومراكش، ولا حتى جارتها المغربية طنجة، فهي مزيج هوياتي لا ينتمي إلا لنفسه، فالعمارة مزيجٌ إسباني على مغربي، واللباس بعضُه زي إسباني ثم إلى جانبه تقف امرأة بلباسها الشرعي الإسلامي. أما اللغة، فهي خليط إسباني على عربي على أمازيغي على لهجة محلية مغربية مطعّمة بمصطلحات فرنسية. كنتُ في محادثاتي مع السكان المحليين أفهم بعض الكلمات من الجمل اللغوية التي يردّون بها عليّ من دون أن أفهم المحادثة بالكامل، حتى إذا ما وفقت بلقاء من يتحدّث الإنكليزية أو بعضهم ممن تحدّث بالعربية الفصحى. عندما وصلت إلى الفندق الذي نزلت فيه، لاقتني سيدة لا تتحدّث إلا الإسبانية فكان علي أن أنتظر حتى يأتي موظف آخر يتحدّث الإنكليزية لإتمام إجراءات الإقامة في الفندق.
لا توجد إحصائيات رسمية لمن يأتون من أصول إسبانية وأصول مغربية. ولكن من الواضح أن الأغلبية في سبتة، ولو بشيء طفيف، تميل لصالح الإسبان
أدوات الاستعمار الاستيطاني متشابهة، فالتوطين وتغيير التركيبة الديمغرافية للمدن لإيجاد حقائق جديدة على الأرض تمت ممارستهما في كثير من مناطق الاستعمار الكولونيالي في العالم، وسبتة ليست استثناء. في نهاية المطاف، السكان هم الموجودون على الأرض، ولهم كلمة الفصل في أي استفتاءات رسمية بشأن مستقبل دولهم. لا توجد إحصائيات رسمية لمن يأتون من أصول إسبانية وأصول مغربية. ولكن من الواضح أن الأغلبية في المدينة، ولو بشيء طفيف، تميل لصالح الإسبان، ما يقطع الطريق على أي مقترحات مستقبلية بشأن استفتاء على مستقبل المدينة، حيث ستكون محسومة أصلاً بفعل العامل الديمغرافي. يُشار إلى أن إسبانيا قد منحت المدينة حكماً ذاتياً مرتبطا بالسلطة المركزية في مدريد عام 1995، ما يعزّز وجود المدينة ضمن إطار الدولة الإسبانية، ويمنع ولادة أي صيغ أخرى.
في الليلة التي سبقت وصولي إلى سبتة، كنت قد قضيتها في تطوان، وهي على مسافة قصيرة من سبتة. كنت أتمشّى بأسواق المدينة العتيقة، وقد سيطر علي من النشيد الذي كنّا نردّده في زمن الطفولة في المدارس "بلاد العُرب أوطاني/ ومن نجدٍ إلى يمن، إلى مصر فتطوان". في الصباح، وعندما استقلّيت السيارة إلى الحدود بين المغرب وسبتة، ما هي إلا دقائق حتى وصلت إلى بوابات حديدية تفصل "بلاد العُرب" عن سبتة. ولكن ما خلف الأسوار الحديدية لم يعد بلاداً للعُرب، حيث هناك مدينة حملت جزءًا من ثقافتها المغربية، ولكنها عالم آخر، فما قبل البوابات الحديدية ليس كما بعدها. في الجزء الأول منها، أوقفني موظفو الحدود المغاربة، وكانوا سعيدين جداً عندما علموا أني قادم من الأرض المقدّسة من فلسطين. وعلى بعد أمتار منهم، وصلتُ إلى موظفي الحدود الإسبان، وكانوا لطيفين أيضاً، ختموا جواز سفري، وقالوا لي أهلاً بك في إسبانيا. لم يكن على الحدود في ذاك اليوم من المسافرين إلا أنا، الوحيد. ثم لحقت بعدها بامرأة عجوز تسير ببطء باتجاه الشقّ الآخر من الوطن المقسّم. شبه الانعدام للحركة على الحدود أشعرني بالتأثير الكبير للبوابات الحديدية، وكم هي تقطع أوصال الوطن الواحد، وكيف أوجدت عالميْن مختلفيْن في رقعة جغرافية صغيرة وثقافتين، ربما لم يعودا قادريْن على الانصهار فيما بينهما. عندما تجتاز البوابات الحديدية باتجاه سبتة، تشعر أنك تسافر، ليس فقط عبر الجغرافيا، ولكن أيضا الثقافة والسياسة والاقتصاد والعمارة.
كنتُ في سبتة، حيث تأتي زيارتي ضمن سلسلة زياراتٍ أقوم بها إلى مناطق نزاع متعدّدة في العالم من أجل التعلّم عن الديناميات التي تحكم تطوّر الصراعات في العالم (كولومبيا وكوريا الجنوبية وهاييتي مثالاً). وكما أقول لطلابي دوماً، حتى تتعلّم من منطقة النزاع الخاصة بك اذهب وتعلم عن مناطق نزاع أخرى، وآمل أن ما تعلّمته عن سبتة سيساعدني في فهم مناطق صراعاتٍ أخرى ستعلّمني شيئاً، أو هكذا آمل، عن الصراع في سبتة نفسها، وعن صراعات العالم العربي بشكل عام.