"كعيني حمار مسجّى في الطريق"

07 اغسطس 2023
+ الخط -

ظلّ الشاعر المغربي، عبد القادر وسّاط، مرتبطا في أذهان متابعيه بأنه رائد الكلمات المتقاطعة المبتكرة في المغرب، ولا تتأتى هذه الريادة بالأسبقية فحسب، إنما نظرا إلى أنه مبتكر وصاحب طريقة في سياقها. أتذكّر في الزمن الطلابي بالرباط في  التسعينيات زاويته الذهنية، كلماته المتقاطعة في صحيفة الاتحاد الاشتراكي، والموقّعة بكنية "أبو سلمى"، طريقة لا تجعلك تبحث عن المعلومة بقدر ما تدفعك إلى "تشغيل عقلك". كانت أمور العقل أيضا المهنة الرسمية لعبد القادر وسّاط، وهو طبيب الأمراض العقلية. ابتكاراته في عالم الكلمات المتقاطعة كانت مبعث متعة ونشاط، فمثلا حين يَسأل عن مقابل عبارة "من أكثر من ذرفت الدموع في التاريخ؟" فلن تحتاج للإجابة للرجوع إلى القواميس، إنما بقليل من التفكير ستكتشف أنه يقصد التماسيح. وكذلك مع عبارة "هو من يقضي حتى على الروح الرياضية"، فتكتشف أن الموت هو المقصود هنا، وآلاف الأمثلة غيرهما. وابتكاره في حقل الكلمات المتقاطعة أوجد مدمنين، يمكن في تلك الأيام رؤيتهم بسهولة منكبّين في المقاهي وهم يسألونك عن قلم، وهو ما كنت ألاحظه، وكنت عادة ما أراجع دروسي الجامعية في المقاهي.
إلى جانب أن عبد القادر وسّاط (أبو سلمى) شاعر ومثقف (أنجز موسوعة طبّية لم يُلتفت إليها)، لديه إمكانات لغوية أخرى لم يصبها في كتب إلا في ما ندر. وهو أيضا قاص، حيث وقفت أخيرا في معرض مسقط للكتاب على مجموعته القصصية "عينان واسعتان" (دار أثر، الدمّام، 2021) وكما أن كلماته المتقاطعة تحمل بلاغتها وغموضها الممتع، فإن عنوان مجموعته القصصية لا بد أنه قد وضعه على هيئة فخّ لغوي. على شاكلة طبيب العيون "الذي يجب أن تنظر إليه جيدا وهو يعالجك"، كما في أحد ألغازه. 
العنوان عنده عتبة بلاغية، وبعد طول قراءة سنكتشف المقصود بالعينين الواسعتين، حيث سيعيش القارئ مع هذه المجموعة التي جاءت في 25 قصّة متفاوتة الحجم، في خضم انعطافات حياة وتجارب بشرية، ينتهي بعضها بمفاجأة والآخر بمشهد بشري طبيعي. في القصة الأولى مثلا "الصورة" طالبة طبّ تطلب من رجل كهل أن يلتقط لها صورة بواسطة هاتفها، ولكنها حين تنظر إلى الصورة بعد التقاطها تصعق، لأنها تظهر في الصورة وهي تحمل طفلا رضيعا. وفي قصة "الشبيه"، يكتشف بطل القصة أن شبيها يلاحقه في كل مكان، حتى حين رجع إلى البيت رآه يحمل سلاحا. لتنتهي بحوار مع مسؤول الأمن في المدينة الذي لم يستغرب الحالة حين أخبره أن الشبيهين موجودون في كل مكان "حتى كبار قادة العالم يعانون منها، هل أوباما الموجود في البيت الأبيض هو أوباما الحقيقي؟". وفي قصة "سعد"، يعيش الأب ورطة حقيقية مع زوجته، حين يُحضر ابنه سعد من الروضة، ولكن الأم صرخت، لأن الطفل الذي جلبه ليس ابنها سعد، يحاول الأب إقناعها، ظانّا أنها جنّت، لنكتشف، في النهاية، أن الأب ليس محقّا، لم يستطع مع ضغوط الحياة أن يتعرف على ابنه، حين جاء من الروضة بطفل يشبهه. وأنت لا تعرف في هذه القصة إن كنت ستضحك أم ستحزن. يجيد وسّاط لعبة التماهي في حلبة المشاعر، بفنية ومن دون شرح أو تأويل.
يكتب في إحدى القصص على لسان الكاتب الياباني كاواباتا "عرفت شابا مجنونا، كان يناول والدته أوراقا بيضاء كل مساء، ويطلب منها أن تقرأ ما كتبه فيها. لقد كان مقتنعا أنه يؤلف رواية. والأم كانت تقرأ بصوت مسموع". ويمكن للقارئ هنا أن لا ينساق وراء الكاتب، ويتساءل: أيهما المجنون؟
القصص مكتوبة بسلاسة، من دون مراوغة شكلية، جمالها داخلي، مشفوعٌ بنهاياتٍ تشبه الحياة، مثل قصة "هل العميان أيضا يبكون؟" التي بطلها الشيخ الأعمى الحاج عبد الغفور، حين رآه حفيده يبكي، فسأل أمّه: هل العميان أيضا يبكون؟ ذلك الحفيد الذي يمثل في حياة جدّه "نقطة الضوء الوحيدة في دنياه الغارقة في الظلام".
قصص تعود إلى أعماق الحياة وانعطافاتها الخفية، وسوف يكتشف القارئ فيها أنه يقرأ وعيناه مفتوحتان على اتساعهما، كعيني الحمار في القصة التي تحمل عنوان المجموعة، الذي تُرك ممدّدا في الشارع، بعد أن جاءت سيارة الإسعاف وأخذت صاحبه.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي