كتب بيضاء
أخيراً، نشرت صحيفة لوفيغارو الفرنسية خبراً غريباً عن اتّهامٍ وجّهه فنّانٌ أميركي، يدعى ماكس ميلر، إلى فنّان إيطالي هو سلفاتوري غارو، بسرقة فكرته القائمة على تصميم منحوتة لامرئية اسمها "أنا" كان الأخير قد باعها بقيمة 15 ألف يورو! وذلك على الرغم من عدم وجودها أو إمكان رؤيتها ولمسها. هذا وقد صرّح سلفاتوري بضرورة وضعها في "وسط صالة فارغة في بيت مستقل، مع وجوب تسطير محيطها البالغ 1.5 متر بشريط لاصق على الأرض" مضيفاً أنّ "الفراغ ليس سوى فضاء ممتلئ بالطاقة. وحتى لو أفرغناه، فإنّ للفراغ وزناً، استناداً إلى مبدأ اللايقين الخاص بالألماني فرنير هايزنبرغ"...
وسؤالي هو: ماذا لو نقلنا هذه التجربة إلى عالم الأدب، فطبعنا كتباً فارغةً بأغلفةٍ وعناوين تحمل أسماء المهووسين بالانتماء إلى عالم الكتابة قسراً؟ أجل، تُصنع لهم كتبٌ بأسمائهم ملأى بصفحاتٍ بيضاء، تتيح للقارئ المحتمل تسويدها بما يشاء. هذا "سيفشّ خلق" كثيرين من مدّعي الموهبة ومحبّي الشهرة الذين يؤلّفون في الواقع أعمالاً "فارغةً" من أيّ قيمةٍ أو مضمون. فلتكن خاويةً، ساعتئذ، بشكل فعلي لعلّها تخفّف عنّا وعن الشجر، وتفيد شاريها بأوراق عذراء يستفيد منها كيفما شاء.
كميات هائلة من الكتب تصدر كلّ عام؛ الروايات تحديداً، ولا ندري كيف نميّز الغثَّ من السمين وقد فقدنا الثقة بدور النشر التي تطبعها، وبالأقلام التي تكتب عنها مستخدمةً توصيفاً مبنياً على أفعل التفضيل، وبالجوائز التي تنالها أو أعداد القرّاء المقبلة عليها. نعم، نحن ما عدنا ندري إلى من نحتكم في ظلّ غياب أيّ مجلاتٍ نقديةٍ تواكب حركة النشر الأدبية، وفي ظلّ تقهقر مستوى معظم الصفحات الثقافية في الصحف والمجلات، ومع هيمنة العلاقات الشخصية بين أصحاب النفوذ الثقافي، إلخ.
ولا نقول هذا كي نحمّل المسؤوليةَ كلّها للكاتبَ الشاب الطامح إلى موقعٍ مميز في الساحة الأدبية، فهو مستغَلّ ممّن يهيّئون له أنّ روايته ذات قيمةٍ أدبيةٍ ما، وإلّا لما كانت دار معروفة لتُقدِم على طبعها ومهرها باسمها، خصوصاً أنّها، أي الدار، لم تطلب من الكاتب أكثر من "مساهمةٍ" تقوم على شراء عدد من النسخ، نظراً للظروف الصعبة والضائقة المالية التي يعاني منها عالمُ النشر حالياً. أجل، هي "مساهمة مالية بسيطة" وليست أبداً الطبع على حساب الكاتب، وهذه على الإطلاق، أولى المصائب وأكثرها أذيّة وضرراً. فمنذ اتّسعت مصافي دور النشر، بات السيّئُ والأسوأُ يعبران إلى سوق الأدب بسهولة، جراثيم تشويشٍ وتشويهٍ وخلطٍ ولغط، ومعايير انتشار لا علاقة لها فعلياً بالأدب، في حين ينبغي تضييق المصفاة إلى أقصى حدّ كي لا تسمح إلّا بمرور الأعمال المصطفاة، المختارة، الجديرة، ذات المستوى والأهمية، وهي الوظيفة التي كانت دور النشر العربية (وما زال بعضها القليل)، تؤدّيها على أكمل وجه. اليوم، "انفلت الملقّ" كما يقال، الجميع يريد كتابة رواية، أجل رواية تحديداً، لا شعر ولا قصة قصيرة ولا مسرحية ولا سيرة ولا خواطر ولا مذكّرات، كأنّما هي النوع السحريّ، سهل المنال، المنفلت من كلّ أصول وقواعد، المبني على رغبةٍ هائلةٍ بالثرثرة وإخبار القصص، إلى جانب اعتباره الطريق الأسرع إلى الشهرة.
في مقالته في صحيفة القدس العربي بعنوان "هل بدأت رحلة الهبوط للرواية؟" (19 يونيو/ حزيران الماضي)، كتب الصديق الروائي إبراهيم عبد المجيد: "البعض يرى أنّ الجوائز ساعدت على ذلك" خالصاً إلى أنّ "الرواية كفنّ وصلت إلى قمتها وستنخفض، والمهم ألّا تنزل إلي القاع". لكن، أتكون فعلاً هي كثرة الجوائز ما فلش سجّادة الرواية إلى حدّ اهترائها من كثرة الواقفين عليها؟ أجل، ربما في جانب ما. وربما هو أيضاً هذا الجهل المخيف بجوهر الإبداع وناره، وهذا الإسهال والسهولة في النشر، وهذا الاختلاط المأساوي بين معايير الجودة والانتشار، وهذا العصر مزيجٌ من الادّعاء والترويج للرداءة. وربما هي الرواية التي، لتفسّخها وتهلهلها، باتت تُفسِح أكثر ممّا تصدّ.