كافح ولو بالذاكرة!
ولو بالذاكرة.. ولو بالتذكّر وحده ينبغي أن نكافح. هذه القضية يجب أن تظلّ الحضور الأوّل في حياتنا عرباً ومسلمين، وبشراً مؤمنين بفلسطين وطناً حرّاً للفلسطينيين.
والذاكرة الحيّة واحدة من أدواتنا المتاحة في هذه المعركة المستمرّة ضدّ الدعاية الصهيونية الجبّارة، وضدّ ما يريدون فرضه علينا وعلى الأجيال الجديدة، من خلال تعزيز فكرة النسيان، نسيان القضية وتاريخها وأصلها وفصلها وحدودها، ومَنْ تسبب بها، ورموزها، وكلّ المفردات التي تشير إليها بوصلةً نهائيةً، وما ينبغي أن نفعله من أجلها اليوم وغداً أيضاً.
بقدر استيائي من المقطع الذي انتشر أوّل شهر رمضان المبارك هذا العام، مجتزأً من مسلسل عربي هَزْليّ تستعير فيه إحدى الممثلات مقولةً لأمّ من أمهات غزّة المكلومات وهي تبحث عن طفلها يوسف، وتصفه: "أبيضاني وشعره كيرلي وحليوه"، كنتُ أيضاً سعيدةً بردود الفعل الشعبية الغاضبة الواسعة على هذا المقطع الذي أُدرج في المسلسل جلباً للطرافة واستحضاراً للمفارقات الدرامية أو لإحداث حالة من التفاعل التي تؤدّي إلى مشاهدات كثيرة وحسب، كما يبدو.
لقد اجتاحت غضبة الناس على هذا المشهد التلفزيوني الذي حاول النيلَ من جلال المشهد الواقعي ووجع الأم فيه، كلّ وسائل التواصل الاجتماعي. وتواصلت الانتقادات بشكلٍ أعاد إلى الأذهان تفاصيل المشهد المؤلم إلى واجهة الحدث بما يليق به.
مقطع الأم الغزّاوية الواقعي ظهر في الشهر الأوّل لـ"طوفان الأقصى"، وهذا يعني أنّ ستة أشهر تقريباً لم تكن كافية لنزع المقطع من الذاكرة الجمعية أو تغييبه عن الوجدان، وبقي حاضراً هناك، في خلية من خلايا الذاكرة، وإن اختفى من الواجهة مؤقّتاً. صحيحٌ أنّ ستة أشهر لا تُعدّ وقتاً طويلاً، نسبياً، ولكن من الجميل أن تسكن مثل هذه العبارة التي قالتها أم تبحث عن طفلها الضائع وسط فوضى القصف والتدمير الصهيوني في غزّة من دون اهتمام من يصور أو يسجّل لحظتها في الذاكرة، لتبقى.
لقد أذيعت تلك اللقطة في سياق كثير مما نُشِر ويُنشَر عن "الطوفان" وقبله، قبل أن تتوارى قليلاً عن الشاشات لتترك مكانها لمشاهد أخرى كثيرة من المصدر نفسه، من قلب الحدث في غزّة، وها هي الآن تعود من جديد لتثبت أنّ الشعب العربي، رغم كلّ الخذلان الذي يعيشه، والعجز الذي يستشعره، والضعف الذي يسري في أوصاله، والقيود التي تكاد تشلّ حركته على الأرض، والحواجز التي تقف حائلاً بينه وبين غزّة، ما زال قادراً على الفعل، ولو على سبيل تعزيز الذاكرة بكلّ ما يثريها ويجعلها قادرة على القيام بدورها في المقاومة.
نعم، من المهمّ جداً أن نبقى، في أوقات العجز الكبير والخيبة العظيمة والشعور بعدم القدرة على فعل شيءٍ من أجل الانتصار لفلسطين، قادرين على التذكّر وعلى حماية ما شاهدناه بأعيننا من عوامل النسيان والتناسي.
نحتاج كلّ مساحة متاحة في الذاكرة لكي نستغلها في سبيل ما ينبغي أن يكون زاداً لمبادئنا ولأفكارنا، وأيضاً، وقوداً لأمنياتنا وأحلامنا وطموحاتنا حتى تبقى على قيد الحياة في وسط هذا الموات الذي يحيط بنا من كلّ جانب.
على كلّ واحد منا دائماً الاحتفاء بكلّ خلية من خلايا ذاكرته. عليه ألا يستهلكها في زحام المشاعر والأشياء والمشاهد والمرئيات. ومهما حدث، عليه ألّا يقترب من تلك المساحة المخصّصة لفلسطين كي تبقى دائماً في الوجدان حيّة لا تموت، وتبقى دائماً حيّة رغم كلّ القصف المستمرّ الموجّه نحوها من الأعداء ومن "الأعدقاء" أيضاً.