كاريزما محمد عبد الوهاب
يشعر المنقّبُ في سيرة موسيقار الأجيال، محمد عبد الوهاب، أنّ الـ 89 سنة التي عاشها (1902- 4 مايو/ أيار 1991)، لم تكد تتسع للطاقة الإبداعية التي كانت تسكن جسده وروحه، وأن المرء ليعجب من مقدرته الاستثنائية على تقديم كل ذلك العطاء... وفاتني أن أذكر، في زاويتي، الأحد الفائت في "العربي الجديد"، أن رياض السنباطي، مثلاً، كان مبدعاً عبقرياً، لم يتمكّن أحدٌ من مجايليه من أن يغالِبَه في ابتكار الألحان الشرقية العذبة، ما دفع نصير شمّه إلى تصنيفه والشيخ زكريا أحمد في خانة الذهب عيار 24. وقد نال السنباطي، في 1977، بجدارة، الجائزةَ التي تمنحها الأمم المتحدة، مرّة كل خمس سنوات، لأحسن مؤلف موسيقي على مستوى العالم، ولكنه كان، مع ذلك، مبدعاً كبيراً وحسب... أما عبد الوهاب، فكان مطرباً وملحناً كبيراً، ويشارك في صنع الأحداث الفنية التي شهدها عصره، لأنه يمتلك شخصية (كاريزما) محورية، دينامية، إيجابية، فيكاد المرء لا يذكر أحد الأعلام في مجال التلحين والغناء والنقد الفني إلا وله فيه علاقة ما.
ولم تكن دائرةُ حركة هذا المبدع تقتصر على مصر. كان يسافر إلى سورية ولبنان. ولافتٌ أن الأخوين الرحباني اللذين كانا يحتكران فيروز وجّها إليه الدعوة ليلحن لها، وأن يعطيها بعض أغانيه القديمة، مثل "خايف أقول اللّي في قلبي"، و"جارة الوادي"، فكان الملحنَ المصري الوحيد الذي كسر قاعدة الاحتكار الرحبانية، وزار حلب، وكان له معها قصة مشهورة، رواها بنفسه في أحد حواراته، فقال إن متعهّد الحفلة أخبره أنّ السهرة الأولى سيحضرها عدد قليل من السمّيعة الذوّيقة، فإذا أعجبهم غناؤك امتلأت الصالة في السهرات التالية... وكان الوصول إلى عبد الوهاب، أو لقاؤه، والاستفادة من علمه، حلماً يراود المطربين الصاعدين في بلاد عربية أخرى، كما فعل الفتى وديع الصافي الذي كان يذهب إلى السينما في بيروت، أواسط الثلاثينيات، مراراً، ليسمع أغنيات فيلم "الوردة البيضاء"، ويحفظها، ويذهب، في وقت لاحق، إلى القاهرة، بصحبة نور الهدى، ليلتقيه، ويُسمعه أغنية "الفن"، فيردّ عليه عبد الوهاب: مش ممكن راجل واحد عندُه الصوت ده كله!
لم يكن عبد الوهاب يكتفي باقتراح مطربٍ جديدٍ على دائرة الموسيقى في الإذاعة، مثلما فعل يوم اكتشف موهبة عبد الحليم حافظ، بل يضيف: "ده على مسؤوليّتي". ثم يقرّر للمطرب الجديد، لدى شركة الأسطوانات، أجراً مضاعفاً، ولا يستطيع مالك الشركة ردّه، وهو من صانعي السينما، حتى أنّه، في أثناء مقابلته الممثلين، في أثناء الاستعداد لفيلم "يوم سعيد" (1940)، تعرف إلى شاب اسمه حسين السيد، جاء للتمثيل، وأخبره أنه يمثل، ويكتب كلمات أغانٍ، وقدّم له أنموذجاً، أغنيةَ "إجري إجري"، فتلقّفها الأستاذ وغنّاها، وأخذ بيد هذا الشاعر حتى أصبح شاعرَه المفضل، الأكثرَ التصاقاً به طوال رحلته الفنية التالية ... وهذا يأخذنا إلى أنّ أغنيات كثيرة أبدعها بصحبة حسين السيد تحوّلت إلى ما يُعرف بلغة اليوم "ترند"، كأغنية "ستّ الحبايب" التي "كَسّرتْ الدنيا" يوم ظهورها في 1957، ولم تنطفئ بعدها مثلما انطفأت أغانٍ لآخرين ذاعت في فترةٍ ما، بل إنّها لا تزال تُغنّى بمناسبة عيد الأم، ويقدّمها مطربون كبار بأصواتهم، إفرادياً أو على شكل دويتو، يعشقونها لما فيها من جمالٍ في الكلمات، وعذوبة في اللحن.
أخيراً، تظهر أهمية الإنسان المبدع بطرق كثيرة، متنوّعة، منها تضمينُ أعماله في أعمال الآخرين، مثلما حصل مع العبقري الشامي أبي خليل القباني، فقد غنّى عبد الحليم: "بالذي أسكر من عذب اللمى/ كان في حالُه/ جاتْ لُه بلوة من السما". ومثل هذا فعلت نجاح سلام، في 1960، حينما أدخلت مقطعاً من أغنية "قل لي عمل لك إيه قلبي"، في سياق أغنيتها "محتار قلبي محتار".