كأن سورية هي الذكرى
لا تقوم الثورات من أجل التغنّي بها، ولا لرقمنة أعداد الضحايا فيها. وإنما لإنجاز ما تطلبُه، لتحقيق الذي يتطلّع إليه ناسُها. يحدُث أن تنجَح، كلا أو جزءا. يحدُث أن تُخفِق، كلا أو جزءا. في غضونها، يظهر قادة وزعماء، ليست مهماتهم أن يحاربوا ويُقتلوا، وإنما أن يقودوا وحسب، أن يكونوا شجعانا في المبادرة والمبادأة والمغامرة، أن يخوضوا السياسة بكل ما تحتاجه من شروط الكفاءة والجدارة والأهلية. لا يشارك في الثورات كلّ الناس. ليس هذا ضرورةً، فثمّة من لا يريدون ومن لا يقدرِون، وثمّة من يخونون ويتلوّنون. المهم ألا يكون هؤلاء وأولئك الغالبين، وألا يصيروا أهل قرارٍ وتوجيه. بديهيٌّ أن خساراتٍ بشريةً تسقُط في الثورات، سواء صار فيها جنوحٌ إلى عسكرة أو لا. يحدُث أن يختلف فرقاء (أو أفرقاء بالمفردة اللبنانية الذائعة) في الثورة نفسها، أن يتوزّعوا شِيعا، ولكن ليس على قاعدة شقاقٍ وبغضاء. يحدُث أن تجري احتكاكاتٌ وخصوماتٌ، ولكنّ قيادةً جامعةً، تحوز مساحاتٍ وازنةً من شرعيةٍ مستحقّة، في وسعها أن تطوّقهما لكيلا يمضي مجموعٌ هنا ومجموعٌ هناك إلى انتحار المعاني والمُثل والقيم.
لا يُسعفنا النظر، من زوايا مثل هذه، من فرضياتٍ كهذه، إلى الثورة السورية، على مبعدة أحد عشر عاما من نشوبِها، وبضع سنواتٍ من انكسارِها، بأي مُنجز، إلا إذا سمّينا تحرّر ملايين السوريين من الخوف. لم تنجح. والإخفاق الذي مُنيت به أوصلنا، نحن المتفرّجين عليها، المتعاطفين معها، إلى اليأس، فلا أفق ماضيةٌ إليه يُخطرِنا عنه الحال السوري كله، بتفاصيله المروّعة والمُضجرة. وبصراحةٍ أكثر، ثمّة عفونةٌ باهظةٌ في راهنها قد يسوقُ إلى النفور من الحديث عن ثورةٍ بدأت جسورةً، شجاعتُها فوق متخيّلة، ووجهت بالرصاص والقذائف والقتل منذ أول هتافٍ فيها، ثم صارت حربا سيئةً، اقتتالا لا يريد أن يكفّ عن صفته هذه، فيما النظام غاصب السلطة مزهوّ بانعدام حساسيته بشأن القتل والانتهاك والتدمير والتجويع، لا تعرف مفردة الشعب موضِعا لها في معجَمه. لا يجد في نفسِه حاجةً إلى أن يُصلِح شيئا من أمره. يسلّي موظفيه الرفيعين بخرافات خفض التصعيد واللجنة الدستورية وغيرها من متوالياتٍ تذكّر بإسحق شامير الذي توعّد الفلسطينيين، في مؤتمر مدريد، بمفاوضاتٍ تمتدّ عشر سنوات، ثم اعتنق ورثتُه عبث المفاوضات مسلكا بلا سقفٍ من السنوات. والنهج الإسرائيلي ديدنٌ تأخُذ به عائلة الأسد الحاكمة منذ عقود، في معالجتها إخضاع الشعب السوري، منذ ما قبل مقتلة حماة في شتاء 1982، عندما أراد الإجهاز على نحو ثلاثمائة "إخواني" فقَتل نحو ثلاثين ألفاً من أهل المدينة، وصولا إلى تبرّم أهل الإحصاء بعدّ من قتلهم ومن أسرَهم ومن خطفهم وأخفاهم ومن شرّدهم وهجّرهم، في أحد عشر عاما. وهذه غير عاصمةٍ عربيةٍ تنشغل بإعادته إلى عضوية جامعة الدول العربية، فيما هو لا يُلقي بالا لهذه المسألة النافلة، فبماذا ستنفعه جامعةٌ كهذه، وحليفاه، الروسي والإيراني، أنقذاه، ويديران شؤونه. والمقاتلات الإسرائيلية إنْ ضربت في تونس 1985 وفي بغداد 1981، وفي لبنان (...)، فهي تؤدّي روتينيّتها هذه في سورية أسبوعيا، فتردّ افتتاحياتُ "تشرين" بتذكير الأمة بدور سورية المحوري في العالم.
ذهبت هذه السطور، بتلقائيةٍ، إلى هجاء نظام الأسد، والإتيانِ على ما أمكن من شناعاته، وليس من مهمةٍ أسهل، عندنا، نحن المتفرّجين على قتل سورية، من الاسترسال فيه. وهذا أمرٌ يحترفُه المقيمون في تمثيليات المعارضة وتنويعاتها، وعلى ما في حشايا صاحب هذه الكلمات من تعاطفٍ معهم، وإنْ ثمّة سخطٌ من بعضهم، فإن المحيّر فيهم، أن لا قائد ثقيلا، زعيما جامعا، ظهر من بينهم، قديرا وقادرا، يجمع المرونة والصلابة، الحنكة والوداعة، يهادن ويحارِب، يسالم ويخاصم، يخاطب العالم كله، فيه ما يلزم أن يكون فيه من عبد الناصر وعرفات وغيفارا وبومدين وبورقيبة وكاسترو والقوتلي وأردوغان وسعد زغلول والملك فيصل و... عجيبٌ أن يكون قياديو المعارضات السورية مثقفين جدا، أصحاب شهادات عليا، مجرّبين وأهل خبرةٍ في غير شأن، محترمين في أكثرهم، وطنيين عن حق، فيما المحنة السورية تحتاج واحدا فقط، فيه سمتُ الزعيم والاستثناء الخلاق. وتحتاج أيضا من يُخبر الدنيا كلها بأن الحادث في سورية، في عُمقه وجوهره، ليس حربا يخوضُها نظامٌ مستبدٌّ ضد إرهابيين. ويصارح العرب، والسوريين أولهم، بأن التجويف المهول الذي حدث في مجتمع سورية وشعبها وكفاءاتها أضاعَها، فصارت الذكرى كأنها لبلدٍ اسمه سورية، وليس وحسبْ لثورةٍ صارت ثم تاهت.