قيس سعيّد ومحاربة طواحين الهواء
لا يملك قيس سعيّد مشروعاً لتونس، ولا رؤية واضحة لمستقبلها، وما ينبغي أن تكون عليه. هو مجرّد شعبويٍّ هاوٍ استهوته السلطة، بعد أن زين له بعض أضلاع الارتكاس العربي ومحور الثورات المضادّة شهوة الانقلاب على النظام الدستوري في البلاد، وهيئت له الأوضاع داخلياً عبر ضمان دعم البنية الصلبة لنظام الرئيس الأسبق، زين العابدين بن علي، لأفعاله. هكذا يمضي سعيّد في مطاردة أوهامه وتقويض تونس، فهو لا يشنّ حرباً على المعارضة وحدها، بل يعادي نظامه ذاته ويشكّ في أركانه، خصوصاً مع توالي موجات الفشل المترتّبة على سياساته الرعناء التي لا ينتظمها ناظم سياسي أو استراتيجي.
منذ مطلع هذا العام (2023)، أقال سعيّد وزراء الزراعة والتربية والتجارة والخارجية، كما أقال والي ولاية صفاقس. وقبل ذلك وبعده، أقال عشرات القضاة بزعم تطهير القضاء. ومنذ انقلاب يوليو (تموز) 2021، عمل سعيّد على تركيز كل السلطات في يديه، وهو يحكُم عبر قرارات رئاسية واستثنائية. ومع أنه حلَّ البرلمان المنتخب، عام 2021، وعطّل العمل بدستور 2014، وفرض دستوراً جديداً، العام الماضي، يركّز الصلاحيات بين يديه، شارك في التصويت عليه 28% فقط ممن يحقّ لهم الاقتراع، وحلّ مجلس القضاء الأعلى في العام نفسه، وأتى ببرلمان جديد، مطلع هذا العام، يمارس دوراً شكلياً، وصوّت له حوالي 11% فقط من الناخبين، دع عنك حملات الاعتقال المتتالية لمسؤولين حزبيين وقضاة وإعلاميين ورجال أعمال ومحامين ونقابيين ونشطاء، إلا أنه ما زال يتّهم المعارضة بـ"التآمر على أمن الدولة والوقوف وراء أزمات توزيع السلع وارتفاع الأسعار".
المفارقة، أن سعيّد يزعم إن إجراءاته الاستثنائية ضرورية وقانونية لإنقاذ الدولة مما يصفه بـ"الانهيار الشامل"، فيما الحقيقة أن الدولة التونسية تنهار تحت ناظريه وجرّاء الفوضى التي يحكم بها. وتواجه تونس اليوم أزمة اقتصادية خانقة ونقصاً في السلع الأساسية، كالحليب والسكر والأرز والبن، وتراجع القدرة الشرائية للمواطن التونسي بسبب التضخّم المتسارع الذي بلغ حوالي 10%. أما مديونية البلاد فقد وصلت إلى أكثر من 80% من ناتجها المحلي الإجمالي. وفوق هذا وذاك، يتردّد صندوق النقد الدولي في منح تونس قرضاً بقيمة 1.9 مليار دولار، ذلك أنه لا يثق بكفاءة سياساتها الاقتصادية. ويفتك ذلك كله ببلاد الياسمين المنكوبة، وسعيّد ماضٍ في غيّه أن المعارضة التي ينكّل بها بقوانين الإرهاب المزعومة مسؤولة عن تخبّطه وسفاهته وعجزه عن الحكم.
قيس سعيّد مجرّد دمية تحرّكها أصابع خارجية، وبطانة داخلية تحيط به تقوده، في حين يظن أنه يقودها
بعد اعتقال قوات الأمن التونسية، الثلاثاء الماضي، رئيس البرلمان المنحلّ وزعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، خرج سعيّد مكرّراً معزوفته المشروخة: "هناك من يحاول تفجير الدولة من الداخل لتحويل البلاد إلى مجموعة من المقاطعات". الأنكى كان زعمه أن نظامه يخوض "حرب تحرير وطني من أجل فرض سيادتنا كاملة ولن نتنازل عن أي جزء منها". قد يرى بعضهم أن هذه تصريحات سياسي يحترف الكذب ويحاول تلبيس الأمور والتدليس وخلط الأوراق في الصراع على الرأي العام. قد يكون في هذا بعض صحّة. لكن، أزعم أن الأمر أبعد من ذلك. تعبّر تصريحات سعيّد عن شخصٍ فارغ لا يملك شيئاً يقدّمه صنعت منه الأقدار بالمصادفة، أو بفعل طرف ثالث، رئيساً لوأد مشروع الديمقراطية في تونس، وتبديد ريادتها في بعث روح التغيير العربي.
قيس سعيّد مجرد دمية تحرّكها أصابع خارجية، وبطانة داخلية تحيط به تقوده، في حين يظن أنه يقودها. هم يعلمون عقد النقص الكامنة في شخصية أستاذ قانون دستوري لم ينل درجة دكتوراة في تخصّصه إلا فخرية، رغم عمله أستاذاً جامعياً أكثر من ثلاثة عقود لم يتميز خلالها أكاديمياً. شخصية تميل إلى التنطّع في الخطاب والسياسات على حساب المضمون والجوهر. شخصية مسكونة بالوهم، رغم زعمه، خلال حملته الرئاسية الانتخابية، عام 2019، "لست في حملة انتخابية لبيع أوهام والتزامات لن أحقّقها، بل أنا ملتزمٌ بما أقول وأعد به، عكس وعود الأحزاب التقليدية التي لم يكن حظ الشعب التونسي منها إلا كحظّ المتنبي من وعود كافور الإخشيدي". لكن، أثبتت التجربة أن سعيّد أكبر واهم ووعوده أقل قيمةً وموثوقيةً من وعود كافور الإخشيدي للمتنبّي.
سقط سعيّد في امتحان رفض التطبيع المبدئي مع إسرائيل. وسقط في وفائه لحق الشعوب العربية في تقرير مصيرها عبر التقارب مع نظام بشّار الأسد. وسقط في البرِّ بقسمه على احترام الدستور الذي انتخب على أساسه. وسقط في إدارة الدولة وانتشال اقتصادها من الحضيض. وسقط في صون سيادة تونس أمام الطامعين الخارجيين، عرباً وعجماً. كما سقط في حماية ثورة شعبها. يرتكب سعيّد كل تلك الموبقات وهو متلبّس شخصية السفيه دون كيشوت الذي توهّم نفسه فارساً فراح يحارب طواحين الهواء.