قمّة الناتو على تخوم بوتين
تململت بعض دول الشمال الأوروبي بعد هجوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا، وأبدت السويد وفنلندا رغبتهما بالانضمام إلى حلف الناتو، وقد أحسّتا بخطر داهم يحيق بهما بوجود جارٍ مدجّج بأسلحة نووية ونوايا هيمنة، عبَّر عنها بوتين بوضوح من خلال محاولته اجتياح أوكرانيا. وكانت الدولتان قد حافظتا على حيادٍ مضطربٍ خلال الحرب الباردة وما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وقاومتا بضراوةٍ محاولات الجذب الكثيرة لجرّهما إلى أحد الأطراف، ولكن الدولتين، بفضل خبرة سابقة وتجربة مرّة خلال الحرب العالمية الثانية، فضلتا البقاء على تخوم الحرب الباردة، وعدم التحيّز لأي طرف. وكانت السويد قبلها قد قادت تيار عدم الانحياز في فترة ما بين الحربين العالميتين، ووقفت في الوسط بين صعود الدولة النازية في ألمانيا ونمو المدّ الشيوعي السوفييتي، وحافظت على حيادٍ مريبٍ خلال الحرب العالمية الثانية، فقد تساهلت، إلى حدّ بعيد، مع ألمانيا في بداية الحرب، وقدّمت دعما لوجستيا واضحا خلال الهجوم الألماني على الاتحاد السوفييتي، واستمرّت في توريد الحديد الصلب إلى ألمانيا، ثم انقلب هذا التساهل إلى دعم واضح لدول الحلفاء باحتضان المعارضين للاحتلال النازي من كل من النرويج وفنلندا، وتوقيف صادرات الحديد إلى ألمانيا. أما فنلندا فقد استسلمت بسهولةٍ في بداية الحرب العالمية الثانية لغزو سريع من الاتحاد السوفييتي، ثم انقلبت الموازين ليحلّ النازيون محلّ السوفييت فترة قصيرة. وما لبثت أن خسرت ألمانيا الحرب ووُضع تصورٌ للحدود السياسية من الحلفاء، وحافظ السوفييت على علاقات تجارية مميّزة مع الجارة فنلندا رغم اعتناق الأخيرة النظام الرأسمالي.
تغيّر الوضع السياسي بحدة عند سقوط الاتحاد السوفييتي، وبعد أن سيطر بوتين على مقاليد الأمور، ومعه حلم الهيمنة من جديد، عانى من مشكلة اليد القصيرة في الشرق، بعد أن انضمت دول المنظومة الاشتراكية، بشكلٍ شبه كامل، إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، بالإضافة إلى دول كانت منضويةً ضمن الاتحاد السوفييتي نفسه، كدول البلطيق الثلاث، وتواصل المدّ حتى كاد أن يشمل أوكرانيا، الدولة التي يعتبرها بوتين كيانا عضويا هاما لا يمكن التخلي عنه، وإن شنّ حربا في سبيل ذلك، وهذا ما حدث بالفعل. ولكن حربه أعادت فتح سجلات "الناتو" الذي كادت مفاصله تُصاب بالتكلس، حتى وصل الحال بالرئيس الأميركي السابق، ترامب، إلى المطالبة بحله لعدم جدواه العسكرية. لتعود عجلة هذا الحلف إلى الدوران بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وتعود إدارة بايدن لضخّ حياةٍ جديدةٍ فيه بجعل دولتين بعيدتين نظريا عن ميدان المعركة، ولطالما جاهرتا بالحياد، السويد وفنلندا، تطالبان بالانضمام إلى هذا الحلف، وينتظر العالم بعد أيام قمّة مرتقبة له على مقربة من حدود روسيا في العاصمة فيلنيوس الليتوانية.
عُرفت دول أوروبا الشمالية، أو اسكندنافيا، بحيادها المعلن، حتى في حال تقاربها مع هذا الطرف أو ذاك ظرفيا، إلا أن الحياد كان عقيده سياسية. ورغم انضمام الدنمارك والنرويج المبكر لحلف الناتو، إلا أن الدولتين لم تنخرطا في جميع أنشطته، وحافظتا على ما يشبه الحياد حتى تحت مظلّة الحلف. واليوم، تجد دولة كفنلندا نفسها مضطرّة للدخول في "الناتو" للحماية، بما يعني أن الخطر الذي تراه محتملا من بوتين يفوق خطر السوفييت. وبوجود فنلندا في الحلف، ومع ترقّب انضمام السويد، ستصبح الدول الاسكندنافية بالكامل أعضاءً في "الناتو"، وهي المطلة على روسيا من الغرب، حيث فنلندا وحدودها الطويلة غير المحروسة جيدا، وتساهم بحصتها العسكرية في "الناتو"، ما يؤدّي إلى مزيد من الصعوبات العسكرية والاقتصادية على بوتين، وهو يجد نفسه أمام تهديد جدّي يكاد يشمل حدوده الغربية بالكامل، فمن الأعلى فنلندا نزولا نحو أستونيا ولاتفيا، وفي الأسفل المنطقة الملتهبة في أوكرانيا. وبهذا، من غير المعروف كم ستصمُد بيلاروسيا، حليفة موسكو، قبل أن تبدأ حركة عصيانها هي الأخرى، لتجعل غرب روسيا قاتما وشديد الظلمة.