الجنوب السوري في حسابات إسرائيل
وقّعت سورية وإسرائيل، بجهود دولية قادها وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، في 31 مايو/ أيار عام 1974، ما سمّي اتفاق فك الاشتباك، أعقب حرب تشرين، ونصّ على رسم خطّين عموديين يتاخمان مرتفعات الجولان من الشمال إلى الجنوب، ويُمنع على أي قوّة من الطرفين الوجود في هذه المنطقة.. المسافة بين الخطّين متعرّجة، تضيق وتتسع كثيراً، فتبلغ في منطقة القنيطرة أكثر من سبعة كيلومترات، وتقل في منطقة الجنوب قرب نهر اليرموك إلى أقلّ من خمسمائة متر، وتوجد قوات دولية في هذه المنطقة، قوامها فقط ألف ومئتا جندي، مهمّتها مراقبة تنفيذ الاتفاق، ولا سيما الحد الشرقي، الخط ب والخط الغربي أ ولونه، من دون سوء نية من الأمم المتحدة، أزرق.
كان ذلك الاتفاق علامة على فشل حرب تشرين، ورضي النظام في سورية وقتها بـ"حلّ" كيسنجر الذي يقول بقبول إسرائيل رفع العلم السوري على جزءٍ من القنيطرة، وقبول النظام بوجود خط "أزرق" تقع خلفه، من جهة إسرائيل، كل مرتفعات الجولان، لتترسّخ دلالة الخط الأزرق في العام 1981، عندما ضمّت إسرائيل مرتفعات الجولان للسيادة الإسرائيلية. حينها لم يعترف المجتمع الدولي بهذه الخطوة، ولكن الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب اعترفت بها، ولم يغيّر هذا القرار شكل الحدود عسكرياً، فقد بقي الوضع كما هو. وليسجل تاريخ الأمم المتحدة واحدةً من أكثر الاتفاقيات الدولية ثباتاً، فقد "احترمها" الطرفان 50 عاما، وأخيراً فكر أحد الأطراف، وهو إسرائيل، بخرقها.
تبدو إسرائيل راغبة بتغيير جغرافي أساسي في منطقة حدودها مع سورية ولبنان وغزّة، وربما الضفة الغربية أيضا. ورغم تمتّع حدودها مع سورية بأمان عمَّر طويلا، إلا أنها تريد الاستفادة من وضع سياسي دولي وعسكري محلي، لتفرض خطوطاً جديدة، فبعدما ذهبت بعيداً في حربها في غزّة، وأحرزت نقاط انتصار على حزب الله في لبنان، لدفعه بعيداً إلى ما وراء الليطاني، تريد على الجانب السوري أن تبني خطوطا دفاعية متينة داخل الحدود السورية، ما يعطيها تفوّقا جغرافياً أكبر يمنحها سيطرة واسعة على الطرق الدولية، فهي تعتبر أن سورية باتت رئة حزب الله الوحيدة القادرة على مدّه بالأوكسجين اللازم للحياة، وستقطع بنفسها الشريان بينهما، بعدما فرضت ضغطاً هائلاً على الحزب في منطقة نفوذه بلبنان، وعلى الأخص في الجنوب. وإسرائيل اليوم تجد نفسها قادرة على تنفيذ هذا التغيير من دون اعتراض دولي كبير، فرغم تعالي أصوات في الأمم المتحدة وإبداء القلق بسبب انتهاكاتها، إلا أنها قادرة على امتصاص مثل هذه الضغوط بمبرّرات الأمن وهجمات 7 أكتوبر. وفي ظل وصول شخصية مثل ترامب إلى البيت الأبيض يمكن أن يتحوّل التغيير الحدودي الجديد إلى أمر واقع آخر، يستفيد منه نتنياهو على حساب سورية.
لا تعكس هذه الخطة مدى ضعف النظام السوري وخوائه فقط، فهي تعكس أيضاً ضعفاً من الجانب الإيراني، الذي كان يسعى، بكل جهد، إلى وضع قدمٍ له في الجنوب المتاخم لإسرائيل، ولكنه فشل في ذلك نتيجة طول الذراع الإسرائيلية التي وصلت إلى العاصمة طهران نفسها. ويعكس أيضاً ضعفاً أو حتى تخلّياً من روسيا التي لديها وجود في المنطقة، فقد كانت معظم اتفاقيات النظام مع الفصائل المحلية في الجنوب برعاية روسية، والانتهاك الإسرائيلي الذي يحصل حالياً يحدُث أمام عينها.
يمكن أن تكتسب التحرّكات الإسرائيلية في الجنوب السوري زخماً جديداً بوجود إدارة ترامب الذي شهدت فترته الأولى دعماً لا محدوداً، أنتج تطوّراً كبيراً في العلاقات العربية الإسرائيلية. ويمكن أن يزداد ذلك الزخم برغبة روسيا في التهدئة لتستردّ الدين على جبهات أخرى، وإيران التي أُثخنت بالجراح تحتاج وقتاً كثيراً لعلاجها، وللبحث عن ثغراتٍ تنفذ منها لتحاور ترامب، قد يكون الجنوب السوري أحدها.