قمّة الفشل في شرم الشيخ

17 نوفمبر 2022
+ الخط -

ازدحمت شرم الشيخ المصرية، خلال عشرة أيام، بالوفود الأجنبية. اختلطَ فيها رؤساء العالم والمسؤولون. حشدَ من أجلها نشطاء المناخ والبيئة وحقوق الإنسان، ألقيت الخطابات الرنّانة. صُرفت أموال السفر والإقامة والطعام بسخاء. الطائرات والسيارات التي نقلت كل هؤلاء رفعت من نسبة انبعاث الغازات المسمّات "الدفيئة". وهذه الأخيرة ترفع درجة حرارة الأرض، التي توافد إليها كل هذا الجمْع من أجل البحث في كيفية الحدّ منها. وطبعاً، ما كانوا اجتمعوا وخطبوا وبحثوا وتكلفوا كل هذه "التضحيات المناخية الضرورية"، لولا الكوارث التي تشهدها الأرض، على أنواعها... نفاد مواردها، فيضانات، أعاصير، جفاف، وذوبان الثلوج، ارتفاع مستوى المياه...

ماذا فعل هؤلاء في قمة شرم الشيخ للمناخ؟ احترموا الموعد المحدَّد. القمّة المناخية صارت روتيناً، بعدما أُقرَّت أهمية انعقادها قبل ثلاثة عقود. من البرازيل إلى كيوتو وباريس وغلاسكو... الأغنياء من بينهم، ألقوا الخطب التأنيبية، إن على الدول "النامية" أن تحترم البيئة والمناخ وترصد من أجلها "حلولاً"، دائماً جاهزة. علماً أن هذه الدول الواعظة، الغنية، مسؤولة عن نصف انبعاثات الكربون، وهي تخالف على أرضها مضامين هذه المواعظ. لا أوروبا وأميركا الديمقراطيتان، ولا الصين التسلطية، تحترم التعاليم التي تمليها على الدول "النامية"، الفقيرة.

وبعد ذلك، وغالباً بلسان رؤساء دولهم، يعلن هؤلاء الأغنياء برامج مساعدات لهذه الدول المحتاجة، بمبالغ دائماً خرافية. بالموازاة، توصيات ومقرّرات تزكّي كلها حجّة هذه "المساعدات". ولكن النتيجة هي نفسها، بعد انفضاض المؤتمِرين: أن هذه الأموال لا تُدفع، أو أنها دفعت، ولكن بمبالغ هزيلة، ومسحوبة، ليس من جيب الأثرياء أصحاب الوعود، بل من خزينة البنك الدولي. وعندما ترتفع أصوات، في هذه القمة، أو التي سبقها، بأن عدم التزام الدفع يتطلّب وضع آلية محدَّدة لتقديمها، يلوذ الأغنياء في الصمت، وأحياناً الرفض الصارم بكتابة أية آلية أو التزام.

لا أوروبا وأميركا الديمقراطيتان، ولا الصين التسلطية، تحترم التعاليم التي تمليها على الدول "النامية"، الفقيرة

وأبلغ تعبير عن هذا الفشل جاء على لسان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، في خطابٍ ألقاه في القمة، تخلى فيه عن لغته الدبلوماسية المعهودة، ومما قاله: "نحن في الطريق السريع نحو جهنّم مناخي، ورجلنا دائماً على دواسة السرعة".

والكلام التأنيبي الصادر عن "الأغنياء"، يردّ عليه رؤساء "الدول الفقيرة" تلميحاً، الناشطون المناخيون صراحةً... بأن هذه وقاحة تامة: الدول الغنية التي استعمرتنا ونهبتنا، هيمنت على اقتصادياتنا، والمسؤولة وحدها عن كذا وكيت من جرائم المناخ... تتجرّأ وتتقاعس عن التزاماتها بمساعدتنا، توبّخنا وتلقي علينا الدروس!

وهذا حقّ يريد منه بعض الناطقين باطلاً. إنه تأنيب بوجه تأنيب. وعندما ينطق به الحكام الفاشلون، يصبح ذريعةً لتحرّرهم من مسؤولياتٍ تقع على عاتقهم.

خذ السيسي مثلاً: تكلم عن "مسؤولية مشتركة" بين الأغنياء والفقراء، في أزمة المناخ، و"ضرورة تحمّل الدول المتقدمة للعبء الأكبر من الحدّ من الانبعاثات (...) وعبء تمويل التكيّف ونقل التكنولوجيا لدول أفريقيا والدول النامية"، فتحرّر تلقائياً من التزاماته المناخية، ومن واجباته القانونية تجاه سجنائه السياسيين، لأن ثمّة "ضغوطاً خارجية" تملي عليه "سياسته الوطنية".

إذا كان لا بدّ من التكلم عن "نجاح" ما في هذه القمّة، فتكمن في تمرير السيسي "كلمة السرّ" هذه، "ضغوط خارجية"، وسط إعلامه ونوابه ونشطائه المختارين من "المجتمع المدني". "كلمة السرّ" لم يكن لها شأن وسط القمة، بل سالت على أطرافه.

ماذا حصل في هذه الأطراف؟ المناخيون النقديون من بين الأجانب استبعدتهم السلطات المصرية من القمة، بعراقيل غير إدارية غير قانونية. أما المصريون من بين ناشطي المناخ، الذين يتابعون مخالفات الدولة المصرية المناخية، مثل استيراد الفحم، وتلوّث المياه وتدمير المساحات الخضراء، فكان مصيرهم عشية القمة الحبس، أو الرقابة المشدّدة، أو الإطباق على اللسان، فيما "ممثلو المجتمع المدني" الذين سُمح لهم بحضور القمة والمشاركة في ندواتها، كناية عن الجمعيات المؤيدة للسيسي.

النشاط الأهم في المؤتمر كان لشقيقته سناء عبد الفتاح على هذه المنابر الجانبية القليلة المُتاحة لبعض ناشطي المناخ

ومع ذلك، كان اسم السجين المصري الأبرز، علاء عبد الفتاح، على كل لسان. تدخّل من أجله مسؤولون غربيون. أصدرت جمعيات حقوق الإنسان، وجمعيات بيئية بيانات تراقب فيها تدهور حالته، بعد إضرابه عن الطعام. والنشاط الأهم كان لشقيقته سناء عبد الفتاح على هذه المنابر الجانبية القليلة المُتاحة لبعض ناشطي المناخ.

وللتذكير فقط: ثمّة عشرات الآلاف من سجناء الرأي في مصر، بعضهم لم يُحاكَم، وإن حوكم، ففي الدهاليز السرية. وعلاء مسجونٌ بالتهمة إياها، "الانضمام إلى منظمات إرهابية". هو الناشط الإلكتروني صاحب أولى المدوَّنات العربية الحرّة، السجين في عهد حسني مبارك، المشارك في كل تظاهرات ثورة يناير، القابع حالياً في السجن، بسبب رأيه ومشاركته في تظاهرات ما بعد الثورة. ابن بيت تقدّمي علماني، والدته أستاذة الرياضيات في جامعة القاهرة، ليلى سويف، مؤسِّسة "الجمعية المصرية لمناهضة التعذيب" و"مجموعة 9 مارس لاستقلال الجامعات". خالته الأديبة أهداف سويف. فيما زوجته أمال هي ابنة بهي الدين حسن، مدير مركز القاهرة لحقوق الإنسان. هذه تفاصيل تفهمنا ديناميكية علاء عبد الفتاح وأهله.

استطاعت سناء عبد الفتاح، إذاً، أن تتكلّم في إحدى الندوات الجانبية، تدعو فيها إلى إطلاق سراح شقيقها. كيف ردّ عليها "ممثلو المجتمع المدني" الرسمي؟ أخرجوا "الهوية". كما ألهمهم السيسي. تأنيب الغرب، وتظلّم، ثم "من نحن؟"، فسلاح الهوية، ذاك المتراس الذي يصدّ "محاولات الزعزعة الخارجية". إنها الردّ "الأيديولوجي" الرسمي على هذه المحاولات. يكفي أن يقول السيسي إن "ضغوطاً خارجية" تملي عليه "سياسته الوطنية"، ليعطي إشارة الانطلاق. وتكون النتيجة المبْهرة أن السيل الذي حارب سناء عبد الفتاح كان يجرف الهوية جرفاً ويحوّلها إلى شوفينية، السلاح الأقوى والأعلى صوتاً. بها حارب "المجتمع المدني" الرسمي سناء عبد الفتاح وأفشل المطالبات بإطلاق سراحه.

فاتت فرصة إضافية لتوليد الأمل بالتحصّن ضد تقلبات الأرض، وضد التفرّد بالحكم

 

ماذا قال هؤلاء؟ صحافيون، إعلاميون، نواب، ناشطون حكوميون... إخترنا لكم: الإعلامي المصري محمد الباز اقترح على علاء عبد الفتاح أن يستغني عن الجنسية البريطانية (اكتسبها من والدته)، لكي لا يخرج من السجن كـ"بريطاني"، طالما "هو مصري يخضع للقوانين المصرية". البرلماني عمرو درويش أكّد أن علاء سجين "جنائي لا سياسي"، وقال مستنكراً: "لا يصحّ أن تستقوي سناء سيف وعائلتها أو أيٌّ من عائلات أي سجين آخر بالدول الأجنبية على مصر، وأن تستعين بالغرب في الضغط على مصر من أجل الإفراج عنهم". وحذّر أنه سيهاجم "كل من يستقوي بالخارج على مصر". عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، الحكومي، سعيد عبد الحافظ، كرّر كلام زميله، شبه حرفي، قال إن "سياسة الاستقواء بالخارج على الدولة المصرية وعلى السلطات المصرية أمر غير مقبول على الإطلاق". وعندما احتدم النقاش وحاول البرلماني عمرو درويش الهجوم على سناء عبد الفتاح، بعد كلمة لها عن أخيها السجين، وردّه أحد رجال الأمن عن عواقبه، صرخ في وجهه بعبارته الأثيرة: "لا تلمسني. أنا برلماني مصري، وموجود على أرض مصرية. لا تلمسني".

فشلان سجلتهما قمة المناخ. الأول عالمي، بأن استعادت طقوساً فارغة مكلفة ومكرّرة. انهزمت البشرية وسط صخبها التبجيلي، فأحبطت التطلعات بتخفيض انبعاث ثاني أوكسيد الكربون. الثاني فشلٌ مصري، بأن ترسّخ المزيد من الاستبداد بعد تمشيق صورة عبد الفتاح السيسي وترشيقها في هذه القمة. وفاتت فرصة إضافية لتوليد الأمل بالتحصّن ضد تقلبات الأرض، وضد التفرّد بالحكم. فالحرية والمناخ توأمان، والحرية لعلاء عبد الفتاح هي النظير العملي لتناول قضية المناخ بجدّية، بصفتها شاحذة لهمّة كل مواطن على هذه الأرض، وليس في مصر فقط.