الإغراء الاستبدادي يحوم حول روح العصر
الديموقراطيات الغربية صاحبة الابتكار والممارسة الديموقراطيتَين. منذ ثورة أوروبا السياسية، أي منذ قرنين، طوّر كلّ منهما الأساليب الديموقراطية، وتمتّعت مجتمعات أوروبا بالمشاركة في هذا التطور. ولكن لهذه الديموقراطيات، وأقواها هي أعرقها، ممارسات استعمارية، ولاحقاً إمبريالية. أي أنها كانت بحاجة إلى الاستبداد "الخارجي"، لكي تتمكّن من نهب شعوب القارّات الأخرى، وتهنأ هي بالديموقراطية والازدهار.
تاريخ هذا التناقض طويل. أشهره، أقربُه إلينا، حصل في سبعينيات القرن الماضي، عام 1973 في تشيلي. وفيها، كان سلفادور أليندي يحقّق سابقة: أول ماركسي يصل إلى الحكم بانتخابات ديموقراطية، في أميركا الجنوبية. فاتحاً الباب أمام ما سمّاه وقتها "الطريق التشيلي نحو الاشتراكية". كل إجراءاته الاقتصادية - السياسية لم تُعجب جارته أميركا. رئيسها، ريتشارد نيكسون، ومستشاره هنري كيسنجر، وعبر مخابراته (سي آي إي) تدخّل لتشجيع انقلاب عسكري ضد الرئيس المنتَخب، بقيادة أوغستو بينوشيه، فكان ما كان: هجوم عسكري على مقرّه، انتحاره في اللحظة نفسها. تلتها حملة وحشية من القمع ضد التشيليين التقدّميين، وكانوا بالآلاف. وحكم عسكري برعاية أميركية، دام عقداً ونصف العقد.
ردّة الفعل الاستنكارية على هذا التدخّل الإمبريالي الأميركي لصالح الاستبداد، كانت جميعها تؤشّر بإصبعها إلى المجرم الأميركي ذابح الديموقراطية، وإلى أن الردّ عليه سيكون بالتمسّك بأهداب الديموقراطية، بنشر طرقها على نطاق واسع، بالدفاع عن ضحايا الانقلاب العسكري بالمعايير الديموقراطية. ولم تكُن هذه الاستنكارات محصورةً بالمدافعين عن حقوق الإنسان. إذ لم تكن هذه المنظمّات ولدت بعد. إنما من جمهور اليسار التقدّمي وقادته وكتابه، فالهوس الأميركي بالشيوعية كان بوصلته. وبعد انهيار منافسه الاتحاد السوفييتي، مالت البوصلة الغربية نحو ديموقراطيةٍ كل ما ترتب عليها من زَيغ وتخابث ومعايير تحترم مصالحه أكثر ما تهتم بالديموقراطية في البلدان المختلفة، البعيدة والقريبة...
دعم الغرب الربيع العربي، إعلامياً وبالقليل من اللوجيستية، ولكنه لم يلبث أن ترك أصحابه بعد هزيمة الربيع عرْضة للدمار والتهجير والموت. أجهض هذا الربيع: خُرق، حُرّف، خُوِّن، شُتِّت، حُمِّل صفة "المتآمر، الصهيوني، العميل"... إلخ.
لم يتغيّر الغرب عموماً. خان مرّة أخرى الديموقراطية وحقوق الإنسان، ووقف مع إسرائيل، المنتهكة أبسط قواعده.
الوضع اليوم يختلف. لم يتغيّر الغرب عموماً. خان مرّة أخرى الديموقراطية وحقوق الإنسان، ووقف مع إسرائيل، المنتهكة أبسط قواعده. وردّة فعل المتضرّرين من الإجرام الإسرائيلي، والمتعاطفين معهم، هي نبذ هذا الغرب، وهجاء الديموقراطية التي اخترعها. ومعها حملة بدأت خافتة، ثم اشتعلت، تذمّ الباقي: حقوق الإنسان، والنسوية، والاستشراق، والمثلية، وكل قضايا النوع الشائكة. ولسان الحال يقول: ما دام الغرب لا يحترم الديموقراطية وملحقاتها، لماذا نُلزم أنفسنا بها؟
وما يساعد على تعميم هذه الفكرة المرض الذي يصيب الديموقراطيات في عقر دارها. أميركا التي لم تُنجب مرشّحين شباباً في كلا الحزبين المتناوبين على السلطة. والتي عليها أن تختار بين دونالد ترامب، رئيس يكذب كما يتنفّس، ينسف القواعد الديموقراطية كلها، يقع تحت طائلة محاكمة بعشرات من التهم الجنائية، لا يتوقّف عن إرسال إشارات إعجاب بفلاديمير بوتين وقبله بعبد الفتاح السيسي وقبله بزعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، إلى ما هنالك من أوصاف وممارسات... فيما خصمه جو بايدن يتهْته، يضيع، ينسى، تحدّق عيناه في الفراغ، كأنه حُقن بإبرة تنشيطٍ فاسدة. إدارته ضائعة، استراتيجيّته غير منسجمة مع نفسها. عاجز عن لجم الحليف التاريخي. ومشكلته التي أصبحت قومية أنه تجاوز الثمانين، وفي حالة تهدّد وعيه ولسانه وإدراكه، وحتى مشْيته. فيما خصمُه الذي يضحك على سنه لا يصغره إلا بثلاث سنوات. وسؤال لا بد منه: ألم ينجب الحزبان الحاكمان إلا أبناء أجيالٍ منقضية؟ هل ثمّة سقف من زجاج يمنع الأجيال الجديدة من تبوؤ سدّة الرئاسة؟ وحكم المسنين هو الماركة المسجلة للاستبداد؟
إسرائيل، التي قامت على حجّة ديموقراطية: "الديموقراطية الوحيدة وسط الصحراء العربية المتخلفة... الديموقراطية المهدَّدة ببحر من الاستبداد... قلعة الغرب الديموقراطي ومتراسه...". عشية السابع من أكتوبر، كانت منقسمةً على مشروع رفعه الائتلاف المتطرّف الحاكم، ينتزع استقلال القضاء لصالح السياسيين في الكنيست، فعلمانيون وليبراليون يهود يستنفرون وينزلون إلى الشارع. وبعد السابع من أكتوبر، ووزارة الشرطة، تحت إمرة اليميني المتطرّف إيتمار بن غفير، توزّع السلاح على المستوطنين، تسهيلاً لقتل أهل الضفة الغربية وطردهم من أرضهم، تضرب المتظاهرين الإسرائيليين، تُنزل الخيول لدهسهم، تنظّم حملات ضد أهالي الرهائن، تمتنع حكومته عن مطلب التحقيق بإخفاقها الأمني بعد تنفيذ "الطوفان"، وتحور وتدور لكي لا تنفذ قرار المحكمة العليا بتجنيد "الحريديم" في الجيش (حافظي التوراة)... هذا غير التوحّش ضد الفلسطينيين في غزّة والضفة. الديموقراطية الإسرائيلية كانت أصلاً مبتورة، بأنها مثل "الجمهورية الفاضلة" سكّانها متنعمون بها، يخدمهم البرابرة العبيد.
أوروبا، القارّة التي أنجبت الفكرة الديموقراطية. انتخابات برلمانها شهد لأول مرّة صعود اليمين المتطرّف، ذي الجذور الفاشية والنازية. أحزابه وصلت إلى المرتبة الأولى في فرنسا والنمسا. واستمرّت بالتصاعد في إيطاليا وألمانيا وبولونيا. باستثناء بلدان البلطيق (لاتفيا، ليتوانيا، استونيا).
يبقى عميد المستبدّين. علي خامنئي، "مرشد" إيران الذي يحكُم منذ ثلاثة عقود ونصف
فرنسا بالذات، حيث نشأت الديموقراطية، حيث الجمهورية مرتبطة بالديموقراطية، وأحزاب اليمين المتطرّف ضد الاثنين. نال حزب التجمّع الوطني بقيادة مارين لوبين ضعف أصوات حزب النهضة بقيادة رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون. وانتخابات تشريعية مسبقة يقرّرها بحل البرلمان، أخذت الأحزاب المتنافسة على حين غرّة. في لعبة وصفت بالخطرة، يراهن عليها لكي يحتفظ بكل القرارات. وهو لن ينجح. فهل يفشل ويحكُم فرنسا حزبٌ فاشيٌّ ذو أصول نازية؟ أم تستدرك فرنسا نفسها وتحمي تراثها الديموقراطي؟ أم أن يتساوى أطرافها وتصبح غير قابلة للحكم، مثل لبنان؟ وخشية وزير الدفاع الفرنسي، سبستيان لوكورنو، في جملته المأثورة، أن تصبح فرنسا "مثل لبنان، ولكن من دون شمس"...
تبقى الدول التي تنافس الغرب على الهيمنة العالمية؛ الصين أولاً، حيث جرت انتخابات في البرلمان الصيني (مارس/ آذار 2023)، المؤلّف من أعضاء الحزب الشيوعي الحاكم. وعدم المفاجأة أتى من أن شي جين بينغ، الرئيس الحاكم منذ عام 2012، جدّد له البرلمان للمرّة الثالثة: 2952 صوتاً ضد صفر أصوات. قبل ذلك بسنة، مدّد البرلمان نفسه لرئاسة شي جين بينغ للحزب الشيوعي، الذي ينتمي إليه كل أعضائه. وعُيِّن أيضاً رئيس للمجلس العسكري. والهيئتان هما العلييان في الصين. وهذا لم يمنع الرئيس بعد أن مُدِّدت سلطته المطلقة على البلاد، أن يقول في خطاب شكر على "اختياره": "أقسم بأن أكون وفياً للشعب والوطن، والعمل حثيثاً على تشييد بلد اشتراكي كبير، يكون مزدهراً وديموقراطياً...".
هل نتابع؟ روسيا: بعدما نال من حياة يفغيني بريغوجين، صاحب مليشيات "فاغنر"، وبعدما نال أيضاً من حياة ألكسي نافالني، أكثر المعارضين جدّية له، ومن أصوات الروس المعارضين لحربه على أوكرانيا... ينظّم فلاديمير بوتين انتخاباتٍ رئاسية، لا ينافسه عليها أحد، ينال فيها أقل من 90% بقليل من الأصوات، فتجدّد رئاسته للمرّة الخامسة. أي أنه يحكم منذ أكثر من ثلاثة عقود، بعقلية رجل المخابرات التي أصعدته نحو مجده.
الضعف الذي يصيب الغرب شيئاً فشيئاً: ضعف من زوايا متعدّدة، منها تراجع ديموقراطيته في داره نفسه
يبقى عميد المستبدّين. علي خامنئي، "مرشد" إيران الذي يحكُم منذ ثلاثة عقود ونصف. وبعدما أطلق ضد شعبه منذ عامين أشرس حملات السحق والقطع والإعدام... ها هو أيضاً يجري انتخابات، إثر وفاة رئيس جمهوريته. السماح بالترشح يقرّه "مجلس صيانة الدستور". وهي هيئة غير منتخبة يرأسها هو. انتخاباتٌ إن كان ثمّة صراع يشوبها، فهو بين الذين وافق عليهم هو. انتخابات يقول عنها إنها "لن تغيّر شيئاً في سياستها الخارجية"، ولا الداخلية بحسب ما هو بائن.
الضعف الذي يصيب الغرب شيئاً فشيئاً: ضعف من زوايا متعدّدة، منها تراجع ديموقراطيته في داره نفسه. واستدارة ميزان القوى نحو الشرق الاستبدادي، الصين، روسيا، إيران، ونجاحات هذه الدول الجيوستراتيجية... كلها من كيمياء تحوّل الاستبداد إلى إغراء رسمي وشعبي عالمي.
إغراء تشوبه الفوضى: إذا كان من الطبيعي أن يقع اليمين في سحر هذا الإغراء، فليس من مقدّمات الأشياء أن ينجذب إليه اليسار، بعدما كان مدافعاً عن الديموقراطية، خصوصاً مع انهيار الاتحاد السوفييتي، أو قبيله أيضاً. ولكن أيضاً إذا هُجر الخيار الديموقراطي، وصار الاستبداد قاعدة، أو في طريقه إلى أن يكونها. فما هي الحاجة إلى الانتخابات؟ والانتخابات تعني محاسبة الحكّام، أو مكافأتهم على سوء إدارة البلاد أو حسْنها. فيما هم يجرون انتخاباتٍ لا تغيّر حتى الأسماء، صاحب السلطة فيها يبقى قائداً حتى يقرّر الله أجله. وفي هذه الحالة، هل من حاجة للـ"إقناع"؟ أو أنها، أي الانتخابات، مجرّد محاكاة شكلية، وجهتها دولية، للذين هم مستعدّون للاعتراف بها، رغم علمهم بكمية الغشّ الذي يعتريها، ومدى رداءة تمثيليّتها... ومع ذلك الإغراء قائم.