قمة المناخ وسلطة التحكّم في المستقبل
ختمت الكاتبة جينيفر غيدلي (Jennifer M. Gidley) كتابها "المستقبل" (ترجمة رندة بعث، هيئة البحرين للثقافة والتراث، المنامة، 2018) بسؤال مهم: "من يتحكّم في سلطة المستقبل، ومن يمسك بزمامها؟". وعندما نربط قمة المناخ التي عقدت أخيرا (COP26) في غلاسكو، مع السؤال السابق، نعني حمولة مفردة "المستقبل" اليوم، وحقيقة "السلطة" التي نتحدّث عنها، وأثر التغيرات (المناخية تحديداً) التي لم تعد مستقبليات، بل هي واقع فعلي بدأنا نتعلم كيف نتكيف معه.
من دون أن تثقل المقالة على القارئ بكم المعلومات الكبير والمحير عن المناخ، وقمة غلاسكو، يمكن إجمال أهم خلاصات القمة في التالي: الحديث المباشر عن "الوقود الأحفوري" المسبب الرئيس لارتفاع درجة حرارة الأرض، والتنصيص عليه لأول مرة في تاريخ هذه القمة. تنامي دور الدول الجزيرية الصغيرة في المفاوضات، وتأثيرها في توجيه النقاش العالمي. أهمية الالتزام بالدعم الذي كانت قد وعدت به الدول الغنية الدول الفقيرة، والبالغ مائة مليار دولار، قصد مساعدتها في تجاوز التغيرات المرتبطة بالانتقال نحو طاقات نظيفة، والأقل تسبباً بانبعاث الغازات الدفيئة، وقصد التخفيف من التبعات الاقتصادية المرتبطة بمستقبل العمالة في هذه البلدان والأكثر تأثراً بالتغيرات المناخية. محاولة إلزام الدول الأكثر تصنيعاً والأكثر تلويثاً للمناخ، بعدم تجاوز سقف 1.5 من درجة حرارة الأرض، بخفض انبعاثات الميتان، والحدّ من قطع الغابات، وتمويل الفحم .. إلخ.
المساعدات المرتبطة بالدول الفقيرة والنامية دليلٌ آخر على استمرار انعدام التكافؤ الاقتصادي والتكنولوجي
كلها معلومات وأرقام ومعطيات قد نسمعها هنا وهناك، لكن، ما الذي تعنيه هذه الخلاصات لمستقبل البشرية؟ فبالنسبة للوقود الأحفوري، الإشارة إليه دليل على بلوغ ضرره مستوىً لم يعد ممكناً التغاضي عنه. ولهذا، يرى الخبراء في هذه المسألة إيذاناً بنهاية عهد هذا النوع من الوقود، حسب إشارة الصحافية سوميني سينغوبتا (Somini Sengupta) في مراسلة لها في "نيويورك تايمز". أما الدول الجزيرية، والتي نسمع تنبؤات علمية عن إمكانات طمرها بارتفاع مستويات البحر، فالحسّاس في المسألة هنا، وحسب قول رئيس جمهورية بالاو، وزعيم لجنة المساعدة الإنسانية، سورانغل ويبس جونيور (Surangel Whipps) Jr. فإنّنا أمام ظاهرة انقراض ثقافات ولغات إنسانية برمتها، ووضع حد لجزء من هوية هذا الكوكب التاريخية.
أما المساعدات المرتبطة بالدول الفقيرة والنامية، فهي دليلٌ آخر على استمرار انعدام التكافؤ الاقتصادي والتكنولوجي بين البلدان الغنية القادرة على التكيف والتعايش مع هذه المتغيرات، والبلدان الفقيرة التي لن تستطيع مجدّدا المواكبة بالشكل المطلوب، حتى مع توفر هذه المساعدات.
نلحظ البروز الصاعد لـ "التهويل الإلكتروني" والذي نعايش آثاره على مستوى الأفراد داخل المجتمع
تساعد هذه النقطة الأخيرة، بشكل جلي، في فهم أنّ التحكّم بالمستقبل أو توجيهه، سلطة أخرى، تتملكّها الدول الكبرى، ومن خلالها تتشكل معالم سياسات جديدة، تقوم على دمج أنواع متطوّرة من التصنيع والتكنولوجيا للتكيف مع الواقع الفعلي للتغيرات المناخية، وهي، في الآن نفسه، محاولة غير مباشرة لتطويق تقدّم وتطوّر غير محسوبين عند دول صناعية عديدة، أهمها الصين والهند.
نحن نعايش حقبة جديدة، بدأ فيها نوع مغاير من المشاهير يعتلي الصورة، وهم مناضلو حركة "يوم الجمعة من أجل المستقبل" أمثال السويدية غريتا ثونبرغ (Greta Thunberg)، والهندية ديشا رافي (Disha Ravi)، والأميركية شيي باستيدا (Xiye Bastida)، وظهور هؤلاء يعني تداخلاً نعايشه في عصرنا المنطبع بالثورة التكنولوجية، والتي مكّنتهم من الانتشار بشكل أكبر، وساعدتهم على التحسيس بما نعايشه، وما نحن مقبلون عليه. وحسب الكاتبة جينيفر غيدلي، قمة الجليد التي نراها ما هي إلا بداية لتأثيرات أكبر ستخلفها التكنولوجيا على مستويي الاقتصاد والثقافة. ولهذا نلحظ البروز الصاعد لما أسمته الكاتبة "التهويل الإلكتروني" والذي نعايش آثاره على مستوى الأفراد داخل المجتمع، لعل أهمها "خلق مستقبل نخاف منه" ما يجعل هذا الجيل الشاب معرّضاً لنسب أكبر من الاكتئاب والرهاب، وتقلص حجم الإقبال على المستقبل، بل يكاد مزاج اللحظة التي نحن فيها، وتحت وقع هذا التهويل، يكون هو "الاكتئاب". ولهذا صنف البنك الدولي "الاكتئاب" في تقريره لعام 2016 من أكثر العوامل المساهمة في الأعباء المالية عالمياً، حسب الكاتبة نفسها.
لا حديث عن بيئة ومناخ معافيين، بعيداً عن مسألة التعليم والتربية في مجتمعات ما بعد شتاء التكنولوجيا الذي قارب على انكشاف وهم قوته وحياديته اليوتوبية
ومن الخلاصات التي يمكننا استفادتها من هذه القمة حضور الصحة ضمن هذه المنظومة، إذ لا يمكن الحديث عن إنسانٍ معافى، كما أسمته غيدلي، من دون نظام بيئي معافى وأنظمة طاقة لا تعادي المناخ. ولذلك استعادت الكاتبة الفيلسوف الفرنسي، إدغار موران (Edgar Morin) الذي يؤكد أننا فعلاً نحتاج أن نعيد تنظيم معارفنا وتوجيهها. ولعلّ هذه النقطة ستحيلنا على خلاصة أخرى، صعود "السلطة الأخلاقية" وتنامي دورها في النقاش، إذ كان الجميع في قمة المناخ يتحدّث فيها باسم هذه السلطة. ولهذا، لا ينبغي الاستغراب أنّنا صرنا نتحدّث عن مبدأ الجيل السابع، والذي يعني التفكير في مستقبل سبعة أجيال مقبلة. لكنّه في الوجه الآخر يعني مصادرة المستقبل، والإيحاء بأنّه متحكَّم به، وسلطة بيد القوى العظمى، فالتفكير في مستقبل هذه الأجيال لا يخلو من فكرة السيطرة والتحكّم في هذا المستقبل، عبر التحكّم في واقع شعوب العالم اليوم. هي فكرة أقرب إلى السلطة الكامنة في الأشياء عند فوكو، ذلك أن الوعي السياسي المعاصر يعي أنه مرغمٌ على مواجهة هذا التغير، لكنّه يجعل منه أيضاً طريقاً لجعل هذا التغيير يخدم دائماً مصالح جهةٍ على مصالح الجهات الأخرى، وإن ترابط مصيرها عالمياً.
وإذا كان خبراء المناخ والبيئة يباغتوننا بكم المعلومات المتنبئة بنهاية العالم كل يوم، فإنّ باحثي العلوم الإنسانية تحضر الحاجة إليهم بشكل غير مسبوق، فلا حديث عن بيئة ومناخ معافيين، بعيداً عن مسألة التعليم والتربية في مجتمعات ما بعد شتاء التكنولوجيا الذي قارب على انكشاف وهم قوته وحياديته اليوتوبية، ولا محيد عن نقاش علاقتنا بالكون من مداخل أخرى، ولا محيد عن نقاشنا الجدّي لأزمة تنامي الآثار السلبية للتكنولوجيا على الإنسان، ولا محيد عن التفكير في علاقة الإنسان بالمعرفة والعلم مجدداً، وعلاقته بنفسه.