عصا السنوار و"اليوم التالي" لإسرائيل

30 أكتوبر 2024

لوحة إعلانية ليحيى السنوار وتجمّع لدعم غزة ولبنان في صنعاء (18/10/2024 فرانس برس)

+ الخط -

حينما ألقى الفيلسوف المغربي، طه عبد الرحمن، محاضرته في اسطنبول "الشر المطلق والمرابطة الفكرية"، تأثراً وتفاعلاً مع طوفان حدث 7 أكتوبر (2023)، رفع من سقف المعنى الذي يأتينا من المقاومة الفلسطينية، واستشفّ حقيقة الفلسطيني الذي يمثل في عصرنا الحداثي السائل صورة للإنسان الكامل. جاءت هذه الكلمات في لحظة يخيّم فيها الإحباط واللايقين على العرب والمسلمين، وهم متسمّرون أمام الإذلال الذي تبديه أنظمتهم، وفاقدون بوصلة الفعل المناسب تجاه ما يحصل من إبادة لإخوانهم في بلاد المقدس.

وإذا كانت التأويلات التي حفت حدث 7 أكتوبر عديدة، فالثابت بالنسبة للعرب والمسلمين أن المقاومة بلغت مرحلة إلغاء "اليوم التالي"، فإما الحصول على الحقّ أو الموت دونه بكرامة. لم يكن أحد يشكّك في هذه الحقيقة التي أحدثت توازناً داخلياً عند الجميع، ورفعت بعضاً من الحرج الأخلاقي والوجودي عن كاهل كل الأحرار، وجعلتهم يوقنون أن المخرج موجود دائماً، ويوقنون أنه مهما كانت الوسائل بسيطة فإن قوة الإرادة التي تحرّكها هي ما يحدّد أبعاد أثرها في الواقع.

وسط كل هذه المعاني والأحاسيس والأفكار والحقائق المختلطة والمتداخلة في ذهن وقلب العربي والمسلم، جاءت صورة الفلسطيني الكامل متجسدة في المطلوب الأول، الشهيد يحيى السنوار، رغم الادعاء الإسرائيلي الوقح بأن السنوار هو من يعرقل عملية التفاوض وتحقيق السلم، كذبة يعي الجميع بمن فيهم الأميركيون وغيرهم من الأوروبيين بأن المعرقل الحقيقي هو صورة الشر المطلق نتنياهو الذي لا يريد للحرب أن تنتهي.

استشهد السنوار في صورة أجمع أغلب من كتب عنها بأنها جسّدت الأسطورة الحية في عصرنا، ولعل الأسطرة أقرب ما تكون إلى ثقافة الميت الإغريقية. أما بالنسبة للعرب والمسلمين، فهي على الأصح تجسيد لقيمة الحياة الكريمة التي كرم الله بها الإنسان، فلا يمكن لأحد سلبها منه، ولهذا كان السنوار يشتهي الحياة وليس الموت بهذه الطريقة (انسجاماً مع معنى الشهادة في الإسلام)، وبها سَيحيا في قلوب الناس ويخلد ذكره في الصالحين. تعلو هذه القيم على الوعي الأسطوري في الثقافة الإسلامية، وتتجاوز أبعاد المتخيل الإنساني الحداثي المهزوم، لأنها امتزاج للمعتقد بالسلوك وذوبان في اليقين.

جعلتنا صورة السنوار ندرك أن حقائق العالم الأصلية مما غلفتها مظاهر الاستبدادين، المحلي والعالمي، وعنفوان التجبّر العلمي والعسكري القاتل، تبقى هي المحرّك الأول لروح البشر

منذ أحداث الربيع العربي، انتعشت في أذهان الشعوب العربية الإسلامية الذاكرة الموروثة عن روابطهم التاريخية التي تفوق ما يعتقدونه. ولذا، كانت حركة الدومينو الثائرة على الأنظمة المستبدّة غير متوقعة وعفوية، كأن المحرك والفاعل واحد عند كل هذه الشعوب، ومن عجيب الترابطات أن هذه الذاكرة، ستزداد انتعاشاً وارتباطاً بهذا الموروث الجمعي الصلب، بعد ما قدمه شهداء المقاومة، غير أن صورة السنوار التي حفظتها الرقمنة وأشاعتها، وهو جالسٌ بأنفة، متشحاً كوفيته، وملقياً عصاه الأخيرة، واحدة من أهم وسائل انتعاش هذه الذاكرة الجمعية، فلم نعد بعدها نسترجع أبطال التاريخ، بوعي نظري جاف، لقد وطن السنوار في ذاكرة الجميع، أن ما نقرأه في كتب الإخباريين والمؤرخين عن ملاحم الأولين هي جزء من الحقيقة التي بلغتها الأمم السابقة، وليس نسيج المبالغة والأسطرة حولها إلا دليلاً آخر على يقينية الحقيقة التي رافقتها.

اقتحم السنوار، بصورته تلك، جميع أركان الحياة المعاصرة اليوم، داخل ملاعبنا الكروية، وعند الجيل الرقمي الصاعد (نذكّر هنا بصورة السنوار في اليوم التالي لاستشهاده داخل مدرّجات مشجعي فريق الرجاء الرياضي بالمغرب، والشعارات التي رفعها مشجّعو فريق الوداد كذلك)، لقد نفضت هذه الصورة غبار الموت كذلك عن الأحزاب اليسارية المغربية (اليسار الاشتراكي الموحد والنهج والطليعة)، وأرجعت أحزاب الإسلام السياسي إلى نقطة البداية في الارتباط بثابت الأمة الذي لا يرتفع. ولم يترك الأثر الكبير للمشهد مجالاً للتردّد والاختلاف.

لقد أنعشت صورة السنوار مشهد الخير والكبرياء في ذاكرة الجميع، باعتباره نقيضاً لهذا الشر المطلق الذي يخيّم على العالم، وأنعشت أقلام كثيرين، ممن حاصرتهم صورة الحداثي الأخير الذي يترنح فوق مذبح نهاية الواحدية القطبية للعالم، لقد جعلتنا صورة السنوار ندرك أن حقائق العالم الأصلية مما غلفتها مظاهر الاستبدادين، المحلي والعالمي، وعنفوان التجبّر العلمي والعسكري القاتل، تبقى هي المحرّك الأول لروح الكائن على هذه البسيطة. ولذا، مثلت لديه، دوماً، أشياء وأهدافاً تستحقّ بلغة محمود درويش الحياة.

أنعشت صورة السنوار مشهد الخير والكبرياء في ذاكرة الجميع

إذا كان الفيلسوف اليهودي ذو الأصول البولندية زيغمونت باومان قد نعى عالم السيولة الذي نحياه، فإن صورة كالتي جسدها السنوار، واحدة من أوجه الصلابة التي تبدد هذه السيولة، ولعلها من أشدّها صلابة، ما دامت تستطيع أن تعيد الأمل في القدرة البشرية للخروج من السرديات التي ينسجها صاحب السلطة، وتجدد مسيرة الإنسان في بناء عالمه الحر الحافظ لكرامة الجميع.

كتب يزيد الصائغ على موقع مركز كارنيجي الشرق الأوسط، في 9 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، مقالة عنوانها "أي يوم تال لإسرائيل؟ ولعل أهم ما قد يربط خلاصاته بعصا السنوار الأخيرة، فزادت صورة هذا المقاوم الشهيد كشف ما عليه جسم الدولة الإسرائيلية الغاصبة، التي فقدت الفواصل بين المستوطن والعسكري، كما بدأت تضمحل فيها بعبارة الصائغ معالم التسوية السياسية الداخلية وتوازنات القوة والمال التي كانت تحفظ تماسكها، وأوضحت أمام مرأى العالم بأن أسطورة البلد الديمقراطي الوحيد في الشرق الأوسط، وبقعة النور التي لا تشبه محيطها، إنما هي سردية آخذة في الاندثار، لأنها صارت أشبه ما تكون بكل المكونات الاستبدادية المحيطة بها، وهنا يصير من الصعب عند كل عاقل الحديث عن يوم تال لإسرائيل، يحمل جدوائية وأفقاً سياسياً، لقد عرّت عصا السنوار ذلك كله.