قلب فؤاد مرعي الكبير
لستُ متأكّداً من أنّ قلب الأديب، الناقد، المعلم، الدكتور فؤاد مرعي، الذي رحل أخيراً عن 84 سنة، كان كبيرَ الحجم، ولكنّني أتخيّل ذلك، وتخيّلي لا يتعارض مع العلم، ففي حالات كثيرة يكون القلب كبيراً، ويصادف أيضاً أن يكون الدماغ أكبر من الحجم الطبيعي، وهذا ما أكّده الطبيب الفرنسي البروفيسور لوغرو، الذي صرّح، سنة 1973، أنّ دماغ عاصي الرحباني أكبر من الأدمغة التي رآها خلال عملياته الجراحية السابقة، وعددها 55.
تعود معرفتي بصاحب القلب الكبير الدكتور فؤاد مرعي، وصداقتي القوية معه، إلى الثمانينيات، وكنتُ أيامها شاباً متحمّساً، يخوض غمار الكتابة في مجال القصة القصيرة والصحافة، وقرّرت، بناء على نصيحة أحد الأصدقاء، أن أخالط الوسط الأدبي في مدينة حلب، باعتبارها العاصمة الثقافية الثانية في سورية، والأقرب جغرافياً إلى إدلب، المدينة النائية، الريفية، المنعزلة، القادرة على إنهاء أيّ موهبة. ولعلّ هذا ما أدركه الشقيقان مواهب كيالي وحسيب كيالي اللذان لمع نجماهما في الأربعينيات، فسافرا إلى دمشق، وانطلقا منها، ولم يعودا إلى إدلب قط.
كان الوصول إلى مكان وجود مثقفي حلب سهلاً للغاية، فكل واحد منهم كان يأتي إلى "مقهى القصر" في وقت فراغه، وكان معظمهم يجلسون إلى طاولة واحدة، إضافة إلى طاولاتٍ جانبية تجرى عليها اللقاءات الصحافية، أو الأحاديث الخاصة... وكان المداومون على زيارة المقهى ينتمون إلى ثلاثة أجيال: الكبار، ومنهم وليد إخلاصي، وعبد الرزاق عيد، وعبد الفتاح قلعجي، وفؤاد مرعي. والمتوسّطون، محمد جمال باروت، وفيصل خرتش، ونهاد سيريس، ومحمد أبو معتوق. والأحدث سناً، فؤاد محمد فؤاد، ولقمان ديركي، وعمر قدّور، وبسام حسين، وسعد الدين كليب. ولم يكن المقهى يخلو من بعض المشاحنات، والنمائم. وهذه لم يكن يخوض فيها فؤاد مرعي، الأستاذ الجامعي، اللطيف، الذي كان يُعامل الجميع بحميمية، ويصادِق طلابه وطالباته، بخاصة من كانوا يشاركون في ملتقى الجامعة. وكان ملتقى جامعة حلب يشكّل ظاهرة أدبية فريدة، على مستوى سورية. وهؤلاء الطلاب، وقد أصبح معظمهم أدباء معروفين، بادروا، على الرغم من اختلاف اتجاهاتهم، إلى تقديم العرفان لأستاذهم الراحل، وذِكر مناقبه، ومواقفه، ولك أن تتخيّل أنّ هذا الرجل الأكاديمي كان يشجّع التجديد في القصة والشعر، وحتى قصيدة النثر، ويشكّلُ، باسمه وتاريخه، مظلةً تحمي الطلاب المجدّدين من هجوم التقليديين عليهم. وحينما كان يكثر التراشق بين المحافظين والمجدّدين من الأساتذة، كان يخاطب الشباب طالباً منهم أن يصوّبوا سهامهم عليه، وعلى جيله، بدلاً من أن يواجه بعضُهم بعضاً. وهذا لم يكن يرجع إلى طيبة قلبه فقط، بل لأنّ التجديد ينسجم مع تفكيره الحداثي. وأذكر هنا، للأمانة، أنّ الناقد والباحث جمال باروت ساهم، هو الآخر، في دعم الشباب المجدّدين، وفي التأصيل للشعر الحديث، ولا سيما في مطلع حياته الأدبية، قبل أن ينتقل إلى حقل الدراسات السياسية والاجتماعية.
كثيرون من طلاب الدكتور فؤاد مرعي الذين أحبّوا أن يحصلوا على الماجستير أو الدكتوراه لجأوا إليه ليشرف عليهم، وكلهم أصبحوا أصدقاءه. وأذكر أنّ الدكتور رياض وتار، الذي درس تحت إشرافه، دعاه، في أواخر 2011، إلى بيته في بلدة سرمدا، وعندما سأله إن كان يحب أن يدعو أحداً غيره، قال له: خبّر خطيب بدلة وتاج الدين الموسى. وبالفعل ذهبنا، وجلسنا معه حتى انتهاء النهار، وطوال الجلسة وأنا لا أتوقف عن التساؤل كيف يمكن أن يجتمع في قلب هذا الرجل كلّ هذا الحب، وكيف يقدر قلبُه على تحمّل كلّ هذا التدخين؟
توفي فؤاد مرعي في اللاذقية، حيث كان يمضي بقية أيامه، ودفن في مسقط رأسه، بلدة تلكلخ الحدودية مع لبنان، وكان حنينه إلى حلب، كما أعلمني فؤاد محمد فؤاد، يوصله إلى حافّة البكاء. رحمه الله.