قلاع على رمال متحرّكة

02 يونيو 2024
+ الخط -

ما تزال نقاشات اليوم التالي للحرب على غزّة تشغل الأوساط البحثية والسياسية في عواصم غربية وعربية عديدة، وفي إسرائيل أيضاً. المفارقة أنّه بالتوازي والتزامن مع حرب الإبادة واللقاءات والنقاشات الدبلوماسية في مختلف العواصم؛ هنالك صراع في ترسيم الأدوار والأوزان داخل تصوّرات النظام الإقليمي الجديد، بحسب صيغة هذا النظام وطبيعته بكل تأكيد.

في تأطير سيناريوهات المرحلة المقبلة؛ ثمّة أسئلة عديدة؛ هل سيجري تدشين نظام إقليمي جديد يقوم على فكرة توازن القوى بين السعودية وإيران، بوصفهما قوّتين إقليميتين رئيسيّتين في المنطقة؛ وأين ستتموضع القوى الأخرى؛ إذا افترضنا أن الدول العربية ستقبل بالقيادة السعودية الطموحة الجديدة للنظام العربي؛ هل ستبقى تركيا مثلاً على الحياد، وتعود إلى استراتيجية "تصفير المشكلات"، أم ستحاول تشكيل محور آخر أو تجترح دوراً معيّناً؟

وهنالك سؤالٌ متعلقٌ بإسرائيل، ما إذا كانت ستقبل بلعبة توازن القوى، أم سيكون هنالك إدماج أكبر لها في محور إقليمي جديد برعاية أميركية لبناء قدرة ردع واحتواء إقليمية في مواجهة إيران؟! وتطرح هذه الفرضية، بحد ذاتها، تساؤلاتٍ أخرى مهمّة، منها: ماذا لو لم تنجح الإدارة الأميركية والدول العربية في التوافق على صيغة سياسية جديدة في المنطقة لحلّ القضية الفلسطينية؛ هل من الممكن العودة إلى نظرية "السلام الإقليمي أو الإبراهيمي"، بمعنى تجاهل مركزية القضية الفلسطينية، كما كانت الحال قبل 7 اكتوبر؟

ولو فرضنا أنّ هنالك تحريكاً للتسوية السلمية ولمحاولة إعطاء "قبلة الحياة" لحلّ الدولتين، هل هنالك أي إمكانية لقبول أي حكومة إسرائيلية (ضمن تحوّل الوسط الانتخابي الإسرائيلي نحو اليمين) بدولة فلسطينية؟ وإذا تجاوزنا كل تلك الصعوبات والمعضلات؛ فإن معضلة المعضلات؛ ما هي الدولة الفلسطينية المطروحة؟ وأنتم في غنىً عن اجترار (وتكرار) الحديث المرهق عن التصوّرات الأميركية المتتالية (انتهت إلى صيغة صفقة القرن) والخطوط الحمراء الفلسطينية الإسرائيلية؛ ما يجعل هذا المسار العقدة الكبرى.

إذاً، نحن أمام صراع أدوار وأوزان في صوغ النظام الإقليمي الجديد بين الدول الإقليمية المحيطة والدول العربية؛ فضلاً عن أسئلةٍ متعلقةٍ بتطوّرات الأدوار الصينية والروسية في المنطقة؛ وفيما إذا كنّا سنشهد في حال تشكّل تحالف إقليمي (عربي+ (إسرائيلي مثلاً) في مواجهة إيران بدعم أميركي، فهل سيكون هنالك دعم روسي- صيني للمحور الآخر. ومن ثم نكون أمام تشكّلات لحروب بالوكالة أو إرهاصاتٍ لحربٍ باردة جديدة؟ أم سيتمكّن العرب، مثلاً، من إيجاد صيغة سياسية- اقتصادية مستقلة عن الهيمنة الأميركية التقليدية، تعطي العرب مساحةً من المناورة والقدرة على بناء تصوّر مستقل لنظرية الأمن العربي (على الأقل في المنطقة العربية)؟.

ثمة أسئلة وتساؤلات عديدة مطروحة في سياق نقاش سيناريوهات المرحلة المقبلة؛ من بينها توقّعات السلوك الإيراني وتحوّلاته في مرحلة ما بعد وفاة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، ووزير الخارجية، حسين أمير عبد اللهيان، فهل سيكون لذلك تأثير على السياسة الخارجية الإيرانية؟ لكن السؤال الأكبر يتمثّل في مرحلة ما بعد المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، علي خاميني، أو ما بعد الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس (وكلاهما في مرحلة متقدّمة من العمر)؛ فكيف سينعكس ذلك على السياقات الإقليمية في هذه المرحلة الانتقالية؟

الطريف أنّ أغلب الدراسات والنقاشات والخطط التي تجري في غرف مغلقة أو في كواليس البيروقراطيات ومراكز التفكير تتجاهل متغيّراً مهماً ورئيسياً، وتكرّر خطأ فادحاً ارتكبته سابقاً، وهو تغيبب دور الشعوب العربية؛ على قاعدة أنّها (الشعوب) لا حول لها ولا قوة، وهو ما حدث سابقاً في عدم القدرة على التنبؤ باحتجاجات الربيع العربي. واليوم لا يبدو واقع الشارع العربي أفضل مما كان عليه غداة الربيع العربي 2011، ولا حالة النظام الرسمي العربي أفضل؛ فالأزمات السياسية والداخلية أكثر استعصاءً والأفق السياسي مفقود، والأوضاع الاقتصادية في دول عربية عديدة تتدهور، وما تزال براثن الفوضى والحروب الداخلية تعتمل في البنى التحتية في دول عربية كثيرة، فأيّ صفقاتٍ أو تسوياتٍ دولية وإقليمية ومحلية بين تلك الأطراف لإقامة تحالفات أو أنظمة إقليمية جديدة تتجاهل هذا المتغير الحيوي والرئيس، فإنّها بمثابة بناء قلاع على رمال متحرّكة.

محمد أبو رمان
محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.