"سيّد اللعبة"... كيف تُبنى السياسات الشرق أوسطية
"يتّجه الشرق الأوسط إلى نمط ما قبل وستفاليا، من دول فاشلة تندلع فيها الحروب الدينية، وخروج بعض المناطق عن سيطرة الحكم، وناقوس الموت يدقّ للنظام الذي تقوده الولايات المتّحدة في الشرق الأوسط، والذي أنشأه كيسنجر من خلال ديبلوماسيته الدؤوب".. بهذه الكلمات يصف المُحلّل والخبير الاستراتيجي والديبلوماسي السابق، مارتن إنديك، الحالة في الشرق الأوسط اليوم، التي اعتبرها بمثابة النهاية لنظام شرق أوسطي عمل وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر على إقامته في الشرق الأوسط، منذ عام 1973، واستمرّ حتّى فترة قريبة.
يلمّح إنديك إلى أنّ الرؤساء والسياسيين الأميركيين لم يدركوا أهمّية النظام الشرق أوسطي الذي دشّنه كيسنجر، واتخذوا سياسات وقرارات أدّت إلى انهياره، سواء عندما قرر جورج بوش (الابن) إنهاء حكم صدّام حسين، ما أنهى التوازن الإقليمي وأطلق العنان في 2003 لحكم إيران ونفوذها في المنطقة، ثمّ عندما أراد الرئيس باراك أوباما أن يختار الجانب الصحيح من التاريخ، على حد تعبير إنديك، فأيّد الثورات الشعبية وأضعف الحلفاء والأصدقاء، وأخيراً، دونالد ترامب، الذي جاء بمقترح يُضعف الفلسطينيين أكثر، ويعزّز الموقف الذي يتّخذه بنيامين نتنياهو بإمكانية إقامة السلام الإقليمي من دون إقامة الدولة الفلسطينية.
يتيح لنا كتاب أنديك فرصة ثمينة ومُهمّة في معرفة الآليات والقيم والفلسفة التي تحكم الرؤية الأميركية في السياسة الخارجية، وتحديداً تجاه إسرائيل
ما هو النظام الشرق أوسطي الذي أقامه كيسنجر، وما أهم ركائزه؟ وكيف يُحيل إنديك حالة إقليمية ممتدّة تاريخياً إلى أفكار كيسنجر حصرياً؟... هذا ما يمكن قراءته في كتابه "سيّد اللعبة: هنري كيسنجر وفن ديبلوماسية الشرق الأوسط" (ترجمة ياسر محمد صديق، دار نهضة مصر، القاهرة، 2023)، وهو مؤلَّف غني عميق، مليء بالمعلومات والتحليلات والخلاصات من السياسات الشرق أوسطية، بخاصة ما يتعلق بالصراع الإسرائيلي، وهو، وإن خصّصه للحديث عن كيسنجر وتصوّراته ودوره في ترسيم السياسات الأميركية في الشرق الأوسط وتصميمها، منذ عمل مستشاراً للأمن القومي الأميركي، ثمّ وزيراً للخارجية الأميركية، مزج سياسات كيسنجر وأفكاره وسلوكه بما حدث لاحقاً من تطوّرات بعد كيسنجر، في صعيد العملية السلمية والديبلوماسية في منطقة الشرق الأوسط، وعمل على استلهام الدروس من منهجية كيسنجر في التفكير والتخطيط الاستراتيجي.
غنيُّ عن القول إنّ هنالك تشابهاً كبيراً بين الاثنين؛ كيسنجر وإنديك، على الأقلّ من خلال وجهة نظر إنديك، فهما يهوديان، وعملا في مجال الديبلوماسية الأميركية في العملية السلمية، بينما كان الأول ناجياً من المحرقة (الهولوكوست)، فإنّ الثاني من عائلة أسترالية. ومن الواضح في فصول الكتاب أنّ صاحبه مُتأثّر إلى درجة كبيرة بكيسنجر وبشخصيته، حتّى في المقارنة معه. وقد كتب إنديك، الذي عمل في وزارة الخارجية الأميركية عقوداً، في السياسات الشرق أوسطية، وسفيراً في إسرائيل، ومبعوثاً للسلام، كتابه هذا، بالرجوع إلى كلّ ما أتيح له من وثائق أميركية وإسرائيلية وعربية، وإن كانت العربية منها، كما يُقرّ، هي الأقلّ والأضعف بين الوثائق والمعلومات المتاحة، فضلاً عن جلسات طويلة من النقاش مع كيسنجر نفسه، قبل أن يرحل الأخير (2023) عن عمر يناهز المائة عام، وبعد عامين من صدور الطبعة الإنكليزية للكتاب.
ما قيمة الكتاب، وما أهميته اليوم، ونحن في عصر شرق أوسطي جديد؟... الجواب عن ذلك من زوايا ونقاط مُتعدّدة، فالكتاب يتيح لنا، بدايةً، فرصة ثمينة ومُهمّة في معرفة الآليات والقيم والفلسفة التي تحكم الرؤية الأميركية في السياسة الخارجية، وتحديداً تجاه إسرائيل، وبصورة خاصّة ما يرتبط أكثر بالمعادلة الأميركية - الإسرائيلية، التي تعزّزت ووصلت إلى مرحلة استراتيجية بعد حرب عام 1973، وقد كان لكيسنجر دور كبير في هذا التطوّر في العلاقة بين الطرفَين. من ناحية أخرى، تكمن أهمية الكتاب، أيضاً، في المقارنات التاريخية التي يمكن أن نستنبطها اليوم بين المرحلة التي سبقت ولحقت حرب 1973، وما بعدها، بخاصّة، ما يتعلق بالفشل الذريع في التوقّعات لكلّ من جهاز الموساد والاستخبارات الأميركية بقيام مصر وسورية ببدء الحرب ضدّ إسرائيل، وهو أمرٌ مشابه تماماً لما حدث مع عملية طوفان الأقصى، لكنّ الفرق أنّ كيسنجر في تلك المرحلة تمكّن من التلاعب بالجميع، الإسرائيليين والمصريين والسوريين والروس، وأمسك بأطراف حبال اللعبة، وحرّك المسارات كما أراد، حتّى وصل بهم جميعاً إلى وقف إطلاق النار، والبدء بالتفكير في العملية السلمية، فيما ما تزال الإدارة الأميركية عاجزة عن التعامل مع تمرّد نتنياهو عليها.
لم تكن مواقف الإسرائيليين بعد حرب 1967 أقلّ تشدّداً ممّا هي عليه حالياً، وكان طعم الانتصار والشعور بالتفوّق يطغى عليهم. لذلك، لم يكن من السهل بمكان القبول باتفاقيات تُعيدهم إلى مرحلة ما قبل الحرب، كذلك الأمر بعد حرب 1973، كان كلّ طرف متمسكاً برأيه، وبالتالي، إن لم يكن كيسنجر شجّع الرئيس المصري في حينه، أنور السادات، فعلياً على القيام بالحرب، كما يشير محلّلون سياسيون كثيرون، فإنّه لم يبد موقفاً ممانعاً أو حادّاً يشي للسادات بموقف حازم أميركي قبل الحرب، وكانت خطّة كيسنجر في مرحلة ما قبل الحرب تجميد الأوضاع القائمة بعد 1967، إلّا أنّه بعد وقوع الحرب، عمل على استغلالها، ونشط في تحقيق أهداف عديدة متناقضة أراد أن تنتهي الحرب بها، ويجملها أنديك بأربعة رئيسية: الأول، انتصار إسرائيلي نسبي، بوصفها حليفة الولايات المتّحدة، مع عدم انهيار الجيش المصري أو استسلامه، حتّى يبقى السادات قادراً على اتخاذ خطوات في تحقيق السلام مع إسرائيل، لاحقاً، وإبقاء الانفراجة مع الاتحاد السوفييتي، التي تبدّت خلال تلك اللحظة التاريخية، بخاصة مع الرئيس السوفييتي ليونيد بريجنيف، وإيصال رسالة إلى الأطراف المختلفة في المنطقة بأنّ أميركا هي القوّة القادرة على إدارة الأمور، وهو فعلاً ما حدث، إذ تحوّل المصريون بعد ذلك نحو التحالف مع الولايات المتّحدة، بديلاً من السوفييت.
لم يكن كيسنجر مهتمّاً بإقامة سلام إسرائيلي - عربي بقدر ما كان يسعى إلى إقامة نظام شرق أوسطي جديد، يتسم بالاستقرار والتوازن، كما يذكر أنديك، وهو الأمر الذي أطّر كلّ تحركات كيسنجر وأفكاره، ونجح فيه بالفعل، من خلال الوصول إلى وقف إطلاق نار مع مصر، ممهّداً الطريق، لاحقاً، لاتفاقية كامب ديفيد (1978)، التي أخرجت مصر من معادلة الصراع العسكري مع إسرائيل، وبالتالي، أنهت الخطر المُحدق بها من جيرانها العرب، إذ إنّ كيسنجر هو صاحب المقولة الشهيرة "لا يمكن شنّ حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا يمكن صنع السلام من دون سورية"، وفكرة النظام الشرق أوسطي ضمنت عدم وجود حروب عربية - إسرائيلية كبيرة، كما ضمنت القيادة الأميركية خلال تلك الحقبة، وتفوّقاً عسكرياً إسرائيلياً مع توازن في القوى الإقليمية، وكما يرى أنديك، فقد تأثّر كيسنجر بأطروحته للدكتوراه بالنظام الأوروبي، الذي أقيم بعد الحرب النابليونية، واستمر السلام الإقليمي مائة عام هناك، حتّى الحرب العالمية الأولى.
لم يكن كيسنجر مهتمّاً بإقامة سلام إسرائيلي - عربي بقدر ما كان يسعى إلى إقامة نظام شرق أوسطي جديد يتسم بالاستقرار والتوازن
المفارقة أنّ النظام الذي عمل كيسنجر على تحقيقه لم يستمرّ، وانهار مع بداية الألفية الجديدة، والقضية الفلسطينية، التي بقيت معلّقة في ذلك النظام، بقيت جذوة المشكلات والقضايا، ومحفّزةً التوتر والانفجار. وبعد مرور 50 عاماً، بالتحديد، على حرب أكتوبر (1973) التي وُلد في رحمها نظام كيسنجر، جاءت عملية طوفان الأقصى لتُعلن وفاة ذلك النظام، ولتستبدل المليشيات وقوى المقاومة المحلّية والإقليمية بالنظم العربية المحيطة بإسرائيل، ولتعود إسرائيل إلى صراع وجودي مرّة أخرى، وإلى أسئلة مصيرية شبيهة بالتي سادت خلال الساعات الأولى من حرب 1973، ومن الواضح أنّه لا توجد هنالك مخطّطات أو تصوّرات استراتيجية أميركية جديدة للمنطقة، وهناك شكوك كبيرة في مدى قدرة أميركا، وربّما رغبتها، في الاستمرار بهذا الدور في المنطقة. المفارقة الكبرى أنّ ذلك كلّه حدث بينما كان كيسنجر يوّدع الحياة في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، أي بعد أسابيع من عملية طوفان الأقصى التي غيّرت إحداثيات المنطقة الجيوسياسية (!).