قصّة
ماتت والدتي منذ سنوات، لكنّي رأيتها أمس واقفةً في "سوبرماركت"، بقميص نومها الأبيض ومعطفها بلون التراب، وكنتُ أنا معها، والناس من حولنا كثرٌ، يملأون عرباتهم وأكياسهم على عجل بكمٍّ هائلٍ من الأغراض. بدوا خائفين ومتعجّلين وقد سمعوا المذيعة تقول إن بيروت "ستهتزّ قويّاً، كما لم يحصل سابقاً"، قبل أن تضيف بالعامّية إن هذا الكلام "صادر عن مسؤول حقير إسرائيلي يظلّ مبتسماً طوال الوقت، نسيت اسمه، لأن أسماءهم تبدو شتائمَ عسيرة اللفظ، عصيّة الحفظ"، منتهية إلى أن لبنان "أصلاً آيلٌ إلى انقراض، فلم الحزن والخوف؟". أردتُ أن أعترض: "الحيوانات هي التي تنقرض يا ذكيّة، ولبنان ليس من فصيلة الحيوانات، وإن كنتُ لا أعرف نوعه".
حلمت بهذا ليل الأحد 24 تشرين الثاني، وليس "نوفمبر". وفي الحلم أيضاً كان يوم أحد. أمّي في قميص النوم وأنا في العاشرة من عمري، ونحن في "سوبرماركت" طولاني نسير بعضنا خلف بعض في خطّ مستقيم. الناس كلّهم يحملون قوائم طويلة تبلغ الأرض وتحتوي ما ينبغي لهم جمعه في دقائق معدودة قبل أن يبدأ القصف. قالت أمّي باسمةً: "نجوى! اختاري ما تشائين"، فنظرتُ إليها متعجّبةً، فقلت: "أجل، كلّ ما يحلو لك". احترتُ وفكّرت أنّى لها أن تدفع وهي لا تحمل حقيبةً ولا محفظةً ولا جيوبَ في قميص نومها.
فجأةً اعترضنا رجلٌ أسود ضخم ظهر من حيث لا ندري. بدا مصارعاً أكثر منه رجلَ أمن. ومع ذلك، سأل أمّي أن تفتح حقيبتها. نظرت أمّي إليه نظرة المغلوبة على أمرها، وسألته لِمَ تراه يطلب تفتيشها هي دون الآخرين، فأصرّ الرجل، ورفع صوته مهدّداً باستدعاء الشرطة على الفور. فكّرتُ أن أطلب النجدة، فأمّي في قميص النوم ولا حقيبة في يدها، لكنّ الجميع، وبعد أن كانوا على عجلة للتبضّع وجمع ما يحتاجون، أصبحوا بغتةً يتحرّكون ببطء شديد، كما في الأفلام، وهم يترقّبون صامتين ما ستُسفر عنه المواجهة. شعرتُ بجفاف حلقي واصطكاك ركبتَيّ، ومع ذلك صرختُ من بين دموعي: "أمّي ليست سارقة.. أمّي ميّتة"، ثمّ هجمتُ على المصارِع الأسود وجعلت أضربه بيدَيّ وأرفسه بقدمَيّ، فأخفتْ أمّي وجهَها بيديها كأنها محرجة بي، فما فهمتُ ردّ فعلها، إلى أن رفعني الرجل أفقياً من ظهري فوق الأرض بيد، وبالأخرى فتح حقيبة وألقى ما فيها إلى الأرض، فتدحرجت من تحتي أشياء ليس لها أن تكون في حقيبة امرأة ميّتة، علب سردين، دبابيس، راحة الحلقوم، قطن، لحم مقدّد، مشط أحمر، سكاكر، قالب جبن... اعتراني شعور بالعار سدّ فمي، فأعادني الرجل إلى الأرض، وراح يجمع ما سقط من الحقيبة، فيما جلست أمّي على الأرض وراحت تضرب البلاط بقدميها: "هم اللصوص. لقد سرقوا أموالنا وجنى أعمارنا ويحاسبوننا الآن على هذه التفاهات".
فجأة، مادت بنا الأرض واهتزّت، فصار الناس يركضون ويصرخون: "بدأ القصف الإسرائيلي"، وأمّي في الأرض تحرّك رأسها معترضة على ما يقال، إلى أن مدّت ذراعها وسحبتني إلى تحت كي أجلس بجانبها. "لا تخافي"، همست لي، "نحن الملائكة تحمينا. انظري! إنها فوق". رفعتُ رأسي نحو السماء، فوجدت السقف المرتفع الشبيه بقبّة ضخمة من الزجاج، ينشرخ ويصدر صوت تفسّخ حادّاً أشبه بأنين متقطّع. صرختُ: "ماما، قومي بسرعة، سيذبحنا الزجاج". "لكنّي ميّتة"، أجابتني، و"الإنسان لا يموت مرَّتَين". نظرت إليها وانحنيت أودّعها، لأن عليّ الهرب بسرعة، لكنّها أمسكتني من كُمّي ورجتني أن أبقى معها: "القبور باردة ونحن الموتى تعبنا من الصلاة... تعالي! اختبئي فيَّ"، ثمّ أخذت ذراعي وابتلعتها، ثمّ ساقي، ثمّ رأسي. وحين وقع السقف وأرعدت السماء، كنت قد أصبحت كلّي في بطن أمّي، فلم يصبني أذى. ونجوت، لكنّي لم أعد إلى الحياة.