"مائة عام من العزلة" سينمائياً
لم يكن أحد ليصدق إمكان اقتباس إحدى أشهر الأعمال الروائية سينمائياً. وهي رواية نشرت للمرّة الأولى في 1967، وجالت ترجماتها في العالم، وبيعت منها أكثر من 50 مليون نسخة. إنها "مائة عام من العزلة" الشهيرة، لكاتبها الأشهر، الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز (جائزة نوبل للآداب 1982)، إذ يستحيل إحصاء الشخصيات، وإن كانت تنتمي إلى عائلة واحدة، وتتبع مصائر أبنائها على مدى ستّة أجيال. ولا ننسى كثرة الأحداث وتشعبّها وعدم اتّباعها خطًّاً سردياً مستقيماً، مع اختلاط الخاصّ بالأحداث التاريخية في أميركا اللاتينية.
السرد دائري، والصياغة مركّبة هدفها طمس العلامات لكي يتوه القارئ في المعنى الجميل للكلمة، فإذا به وقد فقد الإحساسَ بالزمن، يجول في شوارع بلدة ماكوندو ومنازلها، ويتعرّف إلى الأقدار المظلمة لشخصياتها. هذا لا يعني أن السلسلة تتساوى والرواية، بل لا يوجد عمل سينمائي تساوى بالأصل الأدبي المستوحى منه أو المُقتبَس عنه (باستثناء أعمال نجيب محفوظ ربّما). فالجملة هناك، قد تتوازى مع الصورة هنا، إنما، ومهما أبدعت هذي الأخيرة، فستبقى قاصرةً عمّا يمكن للجملة أن تحويه من أبعاد وطبقات ومعانٍ.
أسوق هذا كي أقول إن العمل الفنّي هو ابن عالمه الخاصّ وأدواته ولغته، ما يحميه من مقارنته بالعمل الأدبي، ويتيح له وجوداً مستقلّاً بذاته من دون أن تُغني مشاهدتُه عن قراءة الرواية. وبهذا، أمكن الحديث عن سلسلة "مائة عام من العزلة" عملاً قائماً بذاته.
منذ الحلقة الأولى، تستولي السلسلة على الرواية، وتعيد تشكيل بعض عناصرها، متّبعةً الخطّ السردي الذي يناسبها، من غير أن يعني ذلك تشويها للقصة أو ابتعاداً عنها. فبدل البدء مثلاً بمشهد إعدام الكولونيل أورليانو بوينديا، كما في الرواية، تبدأ السلسلة من قلب قرية ماكوندو المقفرة المدمّرة، إذ تجول عين الكاميرا على مجموعة من "مفاتيح" سوف تتشكّل منها عمليةُ السرد البصري المقبلة: شجرة عائلية يقبع عند قاعدتها صبي له ذنب خنزير، لوحة متفسّخة الألوان للسيّد المسيح، رسم لأوروبوروس (ثعبان يعضّ ذنبه ممثّلاً ميثولوجيا فكرة العود على بدء)، جثمان امرأة حامل مغطّاة بشرشف مبقّع بالدماء، مهد فارغ لطفل، وأسراب من النمل منتشرة في المكان وعلى الأغراض، وصولاً إلى رجل يقف وحيداً، ونراه من الخلف منحنياً على طاولة داخل مختبر. بعد هذا العرض التقديمي لجميع الأشياء التي يفترض أنها تجسّد وصمات عار عائلة بوينديا، يستلم الكلام صوتُ راوٍ غامضٍ، كلّي العلم بمجريات القصّة.
وبصرف النظر عن تخلّيها عن التلاعب بالزمن، وعدم احترام التسلسل الزمني للأحداث، كما ورد في الرواية، فإن السلسلة تقوم بترتيب جريان الأحداث بشكل متتابع، مع التخلّي عن بعض التفاصيل التي قد تعقّد العمل وتتعب مُشاهدَه. والحقيقة أن هذا الترتيب المعتمد في كتابة السيناريو وبنائه لا يغيّر فعلياً أحداث الرواية الأصلية، إذ تُعرَض الأحداث كما كتبها المؤلف الكولومبي غارسيا ماركيز، مع الاحتفاظ بالنبرة السحرية والمغناطيسية للرواية، فيدخل الخارقون والجامحون الحياة اليومية لعائلة بوينديا، ويُحافظ على التوازن القائم بين الخيالي والواقعي، بين الملموس وغير الملموس.
في الحلقات الثمانية (تكوّن الموسم الأول)، تبدأ الملحمة العائلية باتحاد اثنين من أبناء عمومتها، خوسيه أركاديو بوينديا وأورسولا إيغواران، اللذان يرفض الجميع زواجهما، وهو ما يؤدي إلى ارتكاب خوسيه جريمة في عملية تحدّ تنتهي بموت الخصم، ليطارد شبحُه الزوجين، وصولاً إلى تقاسم الحياة اليومية معهما. سيجبرهما ذلك على ترك القرية مع مجموعة من أهلها، والتجوال نحو عامين بحثاً عن البحر، إلى أن يقرّر خوسيه الاستقرار في مكان قريب من النهر، وبناء قرية يطلق عليها اسم "ماكوندو"، الذي رآه في حلمه. لا بد من الإشارة هنا إلى بناء ديكور القرية بأكمله، مع تجسيد مراحل تطوّرها المختلفة، من دون استخدام الشاشات الخضراء (كروما) قدر الإمكان، وهو ما يخدم السلسلة إلى حدّ كبير، ولا يُشعر المشاهد الذي قرأ الرواية بأيّ نوع من الاغتراب.
ينتهي الموسم الأول في منتصف الرواية تقريباً، ويُغلق الدورة الأولى التي بُنِي هذا الجزء على أساسها، بانتظار الموسم المقبل.