"قبل أن تبرُد القهوة"
من منّا لم يحلم بفرصة أن يعيش، من جديد، لحظاتٍ معيّنة من ماضيه، لحظاتٍ عالقة، غامضة، منقوصة، لا تني تعود وتعود فيما تحوم حولها كذُباب طنّان نقاطُ الاستفهام، أو مشاعر الندم والإحساس بالذنب، أو غصّة وقهر من لم يُتمم أمرا مصيريا لأنه لم يستوعب في حينه أهمية اللحظة، أو لأن الوقت لم يُتَح له، فبقي فعله مبتورا أو معلّقا في الهواء. كتاب "قبل أن تبرد القهوة" للمسرحي والمنتج توشيكازو كاواغوشي، في أجزائه الثلاثة، يتناول هذه الثيمة، مانحا شخصياته، وقرّاءه معها، فرصة زيارة الماضي لاستيضاح ما خفي، أو نكءٍ ما يزال مؤلما فيه. كيف؟
ثمة في طوكيو مقهى صغير يدعى فونيكولي فونيكولا، تلج إليه بنزول ثلاث درجات، لتجد نفسك في مكان لم يعرف من الحداثة إلا الكهرباء. لا نوافذ "ولا ساعة حائط واحدة فيه تساعدك على تمييز الليل من النهار في هذا المكان المصطبغ دوما بلون الحبّار"، زبائنه غريبو الأطوار، وحدانيون وقليلو الكلام، وأجواؤه غريبة، إذ ترى في أحد أركانه امرأة جالسة إلى طاولة لا تغادرها، هي في الحقيقة شبحٌ أبيض، لا يترك كرسيّه إلا لدخول الحمّام. في هذه اللحظة بالذات، يمكن لروّاد المقهى الجلوس مكانها إذا كانوا يبتغون زيارة ماضيهم. لكن، لكي لا يتحوّلوا إلى أشباح بدورهم، عليهم احترام خمس قواعد أساسية، وعلى رأسها عودتهم إلى شرب قهوتهم حتى آخر نقطة فيها، وقبل أن تبرد! واختيار لحظة بعينها، أو ظرف أو مناسبة محدّدة. أما القاعدة المهمة الأخرى التي تكشف عنها النادلة كازو، فهي "أيا يكن الجهد المبذول للعودة إلى الماضي، فهذا لن يغيّر شيئا في واقع ما جرى أو في الحاضر".
إلى جانب اللقاءات الطريفة والمسلية التي تجريها الشخصيات مع روّاد المقهى الثابتين، تغامر أربع نساء في الجلوس على الكرسي السحري الذي يتيح لهن السفر عبر الزمن، فهناك العاشقة التي تريد الرجوع إلى تلك اللحظة حين تركها محبوبها، والسيدة التي تتحاور وزوجها قبل أن يخطفه ألزهايمر ويجعل الكلام بينهما مستحيلا، والأخت الكبرى التي تريد رؤية شقيقتها للمرّة الأخيرة قبل أن يخطفها الموت في حادث سيارة، وأخيرا المرأة الحامل الخائفة على مصير جنينها والتي تريد مخاطبته... أربع نساء في الجزء الأول الذي صدر عام 2015 في اليابان وبيعت منه نحو مليون نسخة، قبل أن يتحوّل إلى "بيست سيلر" كوني ويترجم إلى أكثر من 30 لغة.
في جزئه الثاني "مقهى الزمن المستعاد"، التوليفة هي نفسها، إنما الشخصيات الأربع هذي المرّة هي لذكور: فهناك غوتارو الذي يريد أن يرى صديقه المتوفى منذ أكثر من 20 عاما، ويوكيو الذي يودّ إخبار والدته أنه يحبّها وكم هو نادم لأنه لم يكن مقرّبا منها، وكاتزوكي الذي يريد أن يلتقي الفتاة التي لم يتزوّج منها، وأخيرا كيوشي، المحقّق العجوز الذي يرغب بإهداء زوجته أثمن الهدايا.
هذا ولا بد لقارئ الرواية بأجزائها الثلاثة من أن يشعر بتأثير الكتابة المسرحية على نصٍّ يدور كلّه في مكان مغلقٍ واحد، عدد شخصياته محدود، وأسلوبه السردي مبني كلّيا على الحوار أكثر منه على أفكار الشخصيات وتساؤلاتها، وأخيرا على وصف للمكان والشخصيات هو أشبه بإرشاداتٍ جانبيةٍ أو توجيهات توضيحية يلجأ إليها في العادة كتّاب المسرح. طبعا، لا غرابة في الأمر، لأنها الرواية الأولى لكاواغوشي وقد اقتبسها، إذا صحّ التعبير، من عمل مسرحي له حاز الجائزة الكبرى في مهرجان سوجينامي الدرامي.
عمل تسهل قراءته، وقد خاطب ولا بدّ وجدان ملايين القرّاء من حول العالم، إذ يقول، ربما، أمرا بسيطا إنما جوهري: لا تبق أسير ماضيك، بل عش وتمتّع بحياتك في الحاضر، الآن وغدا.