قانون هجرة بطعم العنصرية في فرنسا

23 ديسمبر 2023
+ الخط -

صادقت الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) يوم 19 ديسمير/ كانون الأول الحالي، على قانون مثير للجدل يروم إدخال بعض التعديلات على قانون الهجرة الجاري به العمل حاليا، وهو القانون رقم 30 في هذا المجال منذ 40 سنة، أي بمعدل قانون جديد كل 16 شهرا، لكن كل هذه القوانين لم تفد ولن تفيد ولن تحل مشكلات الهجرة في فرنسا، إذ كلما قنّن المشرّع الفرنسي في هذا الموضوع زاد الأمر تعقيدا، وجعل أوضاع المهاجرين أكثر هشاشة وبؤسا، من دون أن يستطيع الحد من أعداد المهاجرين النظاميين وغير النظاميين، لسببين: أولهما أن فرنسا في حاجة ماسّة  للمهاجرين في مجالات العمل التي فيها خصاص كبير، وهي متعدّدة. وإذا كان الإعلام الفرنسي  يتحدّث فقط عن العمالة الأجنبية عديمة الكفاءة في مجالات البناء والنظافة، فهو ينسى، بل يتناسى، الحديث عن فئة من الأجانب أو ذات الأصول الأجنبية من الأطباء والمهندسين والعلماء والخبراء والباحثين المتخصصين وكل الكفاءات والكوادر العليا التي لولاها لفقدت فرنسا الكثير من بريقها وجاذبيتها، وهذا يصل بنا إلى السبب الثاني، فجاذبية فرنسا ستبقى ما دامت دولة متقدّمة، وما دامت ظروف العيش فيها  تفوق بكثير مثيلاتها في بلدان المنشأ، بالرغم من كل هذه القوانين.
قبل أن نتطرّق إلى ما يحتويه هذا القانون من بنود جائرة وعنصرية، لا بد من ذكر حيثيات التصويت عليه، فبعد تقلبات ومنعطفات متعددة، استطاع اليسار الفرنسي أن يطيح القانون في الغرفة الأولى، بعد اقتراح صيغة الرفض المسبق للقانون من دون مناقشته، وهو الاقتراح الذي نال 270 صوتا مقابل 265 في تحالف غريب بين اليسار واليمين المتطرّف،  لكن لدواع مختلفة، حيث يعتبره اليسار قانونا عنصريا ظالما، بينما اعتبره اليمين قانونا رخوا ومتساهلا لا يحقّق مطالبه، ومن ثمّة لم يكن من خيار أمام الحكومة إلا بسحب القانون، أو طرحه مجدّدا بالشكل الذي صودق عليه في مجلس الشيوخ ذي الأغلبية اليمينية المتشدّدة، بعد مناقشته حصريا داخل لجنة مشتركة بين الغرفتين الأولى والثانية للبرلمان، وهذا ما حصل.

من أصل  573 نائبا برلمانيا، فضل 38 الامتناع عن التصويت أغلبهم من الأغلبية الحاكمة

وهكذا وافقت الجمعية الوطنية على الصيغة الأكثر تشدّدا بعد القيام بتعديلات تُرضي المتطرّفين من اليمين، بأغلبية 349 صوتا مقابل 186، وهو تقدّم يسمح للمعسكر الرئاسي بالقول إن النص تم تمريره من دون مساعدة التجمّع الوطني (RN) اليميني المتطرّف وأصواته الثمانية والثمانين. لكن إذا دخلنا إلى التفاصيل، وأجرينا عملية حسابية بسيطة، سنلاحظ أنه من أصل  573 نائبا برلمانيا، فضل 38 الامتناع عن التصويت أغلبهم من الأغلبية الحاكمة، وصوت 535 مما يحدد الأغلبية في 268 صوتا. وهكذا لو صوّت اليمين المتطرّف ضد القانون، فإن عدد الرافضين كان سيكون 274 صوتا منهم 27 برلمانيا ينتمون إلى الأغلبية مقابل 261 من المؤيدين. وعليه، لم يكن هذا القانون ليمرّر لولا رضا المتطرفين عليه، إذ يعتبرونه خطوة في الاتجاه الصحيح.
ماذا إذن في جعبة هذا القانون؟ وما هو محتوى هذا النصّ المعتمد؟ يحرم هذا القانون أبناء المهاجرين الذين ولدوا وترعرعوا في فرنسا من الحصول على الجنسية الفرنسية بطريقة تلقائية، وهو ما يعرف بالحقّ في الأرض (le droit du sol)، ويفرض عليهم طلبها عند بلوغ سن الرشد. ومعلوم أن هذا الحقّ موجود في  القانون منذ سنة 1851؛ كما يفرض هذا القانون على الطلبة الأجانب كفالة مالية ستحدّد قيمتها لاحقا، علاوة على رسوم التسجيل التي رفعت سنة 2019، حيث يؤدي الطالب الأجنبي في السلك العالي حوالي 3000 يورو مقابل حوالي مائتي يورو للفرنسي.  
بالإضافة إلى هذا، يحتوي القانون الجديد على 88 بندا، أهمها: فرض نظام الحصص، الكوتا، في العدد المسموح باستقبالهم من الأجانب؛ إعادة  تجريم الإقامة غير القانونية، ما يجعل كل أجنبي انتهت مدة صلاحية بطاقة إقامته معرّضا للسجن؛ تشديد إجراءات وشروط التجمع العائلي الذي يسمح للفرنسيين أو للمقيمين الأجانب باستقدام أزواجهم أو بنيهم؛ إعادة قانون العقوبة المزدوجة الذي يسمح بطرد حاملي الجنسية المزدوجة، وتجريدهم من جنسيتهم الفرنسية، حال ارتكابهم أية جريمة، بل أكثر من ذلك يعتبر القانون الاعتداء على أي موظف للدولة جريمة، ما سيفتح باب السلطوية والعنصرية لدى رجال السلطة ليس فقط تجاه الأجانب، بل تجاه كل من يوحي شكله أو سحنته أو لكنته أنه ذو أصول أجنبية؛ فرض أجل خمس سنوات من الإقامة على الأجانب لتلقي التعويضات العائلية، ما سيحرم الملايين من الذين يساهمون في صندوق الدعم العائلي من الاستفادة منه؛ "احترام مبادئ الجمهورية" للحصول على بطاقة الإقامة، ما سيجعل مسلمين عديدين عرضة لعدم الحصول عليها، إذ غالبا ما يتطرّق الاستجواب إلى مواضيع حسّاسة تتعارض مع المبادئ الإسلامية؛ إلغاء حقّ الحماية من الطرد، بما في ذلك الطرد التلقائي للأجانب المدانين بالاعتداء على مسؤول منتخب، ولطالبي اللجوء السياسي الذين رفض طلبهم.

قانون  يتبنّى، من دون حرج،  بعضاً من برامج اليمين المتطرّف، مثل الأفضلية للفرنسيين مقابل الأجانب

ومعلومٌ أنه للحصول على دعم حزب الجمهوريين، أرسلت الوزيرة الأولى إليزابيث بورن رسالة إلى رئيس مجلس الشيوخ اليميني المتشدّد تعد فيها بتغيير قانون "المساعدة الطبية الحكومية" لتضييق الإجراءات التي تسمح للأجانب الاستفادة منه، وقد كان هذا من شروط حزب الجمهوريين للتصويت على مشروع القانون، كما أنها كانت رسالة واضحة لليمين المتطرّف أيضا، ما جعل كل أطياف اليمين الفرنسي تصرخ انتشاء وفرحا بانتصار آرائها المتعصّبة.
هو قانون يحمل في طياته أفكارا عنصرية وبنودا مقيتة، اضطرت وزير الصحة للاستقالة، وإعلان 32 محافظة فرنسية على عزمها عدم احترامه، وإدانة من رؤساء كبريات المدارس العليا ورؤساء الجامعات، إذ إن نصف الطلبة الذين يشتغلون في البحث العلمي هم من الأجانب، كما أن النقابات العمالية ترفض هذا القانون، حيث دعت الكونفدرالية العامة للشغل ( CGT) إلى إجراءات واسعة النطاق، ودعت إلى "العصيان المدني".
هو قانون يتبنّى، من دون حرج، بعضا من برامج اليمين المتطرّف، مثل حق الأفضلية للفرنسيين مقابل الأجانب، وحرمان هؤلاء من حقوق عديدة، واعتبار أبنائهم مواطنين من الدرجة الثانية... نعم هو قانون لا يعتمد كل مقترحات العنصريين، لكنه، في المقابل، يأخذ بلُبّها ويفتح باب السلطة على مصراعيه لكل السياسيين المتشددين في أوساط اليمين، التقليدي والمتطرّف، إذ يجعل من التهجّم على المهاجرين والمسلمين سُلّما للصعود، ويعتبر هذا أمرا عاديا وطبيعيا. وبذلك فهو يقوم بعملية التطبيع مع الأفكار والممارسات العنصرية، وهذا هو الأخطر.

69325256-4F5A-4368-9A3B-FD48F176325F
69325256-4F5A-4368-9A3B-FD48F176325F
عمر المرابط
باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
عمر المرابط