ماكرون يراوغ الديمقراطية الفرنسية

07 سبتمبر 2024

رئيس الوزراء الفرنسي المعيّن ميشيل بارنييه في حفل التسلم في باريس (5/9/2024 فرانس برس)

+ الخط -

وأخيراً، بعد مرور 60 يوماً ونيّفٍ على الانتخابات التشريعية الفرنسية السابقة لأوانها، التي عرفت تصدّر تحالف اليسار نتائجها، في مفاجأة لم تتوقّعها لا استطلاعات الرأي ولا الرأي العام الفرنسي آنذاك، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (5 سبتمبر/ أيلول الجاري) وزير الخارجية سابقاً في عهد الرئيس الراحل جاك شيراك، ميشيل بارنييه، وزيراً أوّل، وهو شخصية سياسية مرموقة ذات تجربة طويلة وعريضة احتلّت مناصب وزارية عديدة وطنياً وأوروبياً، مما يؤهّله لقيادة حكومة دولة من أقوى دول العالم، بيد أنّ من حقّ المرء التساؤل، لا عن كفاءة وخبرة الرجل المشهود له بهما، بل عن أسباب اختياره فجأةً بين عشية وضحاها، لا سيّما أنّه ينتمي إلى حزب الجمهوريين، الذي يعيش أسوأ أيّامه وأضعفها، ولم يحصل إلّا على المركز الخامس في الانتخابات، وعلى أقلّ من 10% من عدد النواب (بما مقداره 47 نائباً من أصل 577)، بالرغم من تاريخه العريق، وكونه الوريث الشرعي للجنرال ديغول.

كان الفرنسيون يترقّبون تعيين وزيرٍ أوّلَ ينتمي إلى تحالف اليسار، المسمّى الجبهة الشعبية الجديدة، الذي حصل على الأغلبية النسبية والمركز الأول بـ193 مقعداً متبوعاً بالأغلبية السابقة المسمّاة "جميعاً من أجل الجمهورية" بـ166 مقعداً، ثمّ في المركز الثالث تحالف اليمين المتطرّف بـ142 مقعداً، وهذه هي الأقطاب الثلاثة داخل الجمعية الوطنية الفرنسية، التي لم ينجح أيّ منها في الحصول على أغلبيةٍ مُريحةٍ، ولا يمكن التحالف بين مكوّناتها المتعادية في ما بينها.

سمح هذا الوضع السياسي غير المسبوق، في ظلّ الجمهورية الخامسة، للرئيس بالمناورة وإعطائه فرصةً للتقليل من هزيمته واستغلال تشتّت مناوئيه، فراوغ سياسياً لاعباً أوّلاً على رهان الزمن، بذريعة عدم تغيير الحكومة في أثناء استقبال فرنسا الألعاب الأولمبية وما بعدها، ولعب ثانياً على بثّ الإشاعات ودواعي الفرقة داخل صفوف اليسار، أملاً في انفراط عقده وانشقاق مكوّناته، متّبعاً في ذلك تارةً سياسة الإغراء، وتارة سياسة التحريض والتأليب؛ مع إعلان رفض أيّ حكومة يشارك فيها حزب فرنسا الأبية، واتهامه، وهو المكوّن الأساس لتحالف اليسار، بتهمٍ من قبيل معاداة الساميّة أو عدم احترام العلمانية والتقرّب من الإسلاميين، مستعيناً في ذلك بقوّة إعلامية متحيّزة، وبسياسيين معروفين بتوجّهاتهم.

أصبحت مراوغات ماكرون ومناوراته لا تطاول السياسيين فقط، بل جوهر الديمقراطية نفسها

لم ينجح ماكرون في كسر عظام اليسار وتشكيل تحالف يجمع بين أغلبيته السابقة وبعض مكوّنات اليسار المعتدل، خاصّة بعد توافق الجبهة الشعبية الجديدة على تسمية لوسي كاسطي لنيل منصب رئاسة الوزراء، والتفاف قوى اليسار حولها مخافةَ التكلفة السياسية الغالية لأيّ خيانةٍ سياسية أو انشقاق حزبي، إذ لولا التحالف الانتخابي لما حصل تحالفُ اليسار على المركز الأول، ولولا مرونة ودعم حزب فرنسا الأبية لما حصل الحزبُ الاشتراكي على المركز الرابع بـ66 مقعداً، ومن ثمّ استطاعت الجبهة الشعبية الحفاظ على وحدتها التنظيمية، بالرغم من اختلاف تقديرات مكوّناتها الحزبية في أفق انتخاباتٍ تشريعيةٍ سابقةٍ لأوانها، محتملةٍ خلال السنة المُقبلة.

الهاجس الكبير الذي يُؤرّق الرئيس ماكرون في الفترة المُتبقِّية من حكمه، التي تمتد دستورياً إلى سنة 2027، خوفه أن يكون كَالَّتِي "نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً"، فيأُتي بوزير أوّل ينتهج سياسةً معاكسةً لما قام به الرئيس منذ تولّيه الحكم منذ سبع سنوات، ويبدّد إنجازاته السياسية والاقتصادية بصفة عامة، ويتراجع بالخصوص عن الإصلاحات الهيكلية الكبرى التي أُنجِزت، مثل إصلاح نظام التقاعد على سبيل المثال، إذ يتضمّن البرنامج الانتخابي لليسار إجراءات يمكن تطبيقها فوراً من دون الرجوع إلى البرلمان، كإلغاء نظام إصلاح التقاعد أو الرفع من الحدّ الأدنى للأجور إلى 1600 يورو، ناهيك بإصلاح النظام الضريبي برفع مستوى الضرائب باستهداف الطبقات العُليا من المجتمع، وكبريات الشركات، وهذا ما لا يريده لا ماكرون ولا الجهاتُ النافذةُ في المجتمع الفرنسي.

لم ينجح ماكرون في كسر عظام اليسار وتشكيل تحالف يجمع بين أغلبيته السابقة وبعض مكوّنات اليسار المعتدل

من أجل هذا، رفض ماكرون تسميةَ مُرشّحة اليسار، بالرغم من إدراكه أنّ حكومتها ستسقط في أوّل اختبار برلماني، لكنّها ستكون قد فعلت فعلتها، ومن ثمّ حاول الرئيس اختيارَ شخصيةٍ يساريةٍ يمكن التفاوض معها بِشأن إنجازاته، فطرح إعلامياً اسم الوزير الأول الاشتراكي السابق، برنار كازناف، لجسّ نبض اليسار فأخفق؛ لأنّ كازناف يميني في جلباب يساريٍّ، يساريُّ الصورة والانتماء، يمينيُّ التوجّه والأسلوب، فرُفِض من الجهتين كلتيهما، يميناً لانتمائه، ويساراً لمعرفتهم به، وهم أدرى به، فاتّهموا بالتعنّت وحُقَّ لهم ذلك.

سلك ماكرون الأسلوب نفسه تقريباً مع اليمين، وأشاع اسم الوزير الأسبق كزافيي برتران (اليميني المُعتدِل)، لكنّ معارضة اليمين المُتطرّف لاسمه، نظراً إلى مشاكسته لهم في قعر دارهم بشمال فرنسا حالت دون تعيينه، إذ كان سيصير ضحية ملتمس رقابة إثر تعيينه، وماكرون يريد حكومةً مستقرّةً، ولو إلى حين، تمكّنه دستورياً من حلّ البرلمان مرّة أخرى.

جعل هذا كلّه فرنسا تعيش مرحلةَ انسدادٍ سياسيٍّ لا ندري هل ستخرج منها قريباً أم لا. وإذا خرجت، فلن تكون إلّا بتنازلاتٍ متبادلةٍ بين كبرى القوى السياسية في البلاد، وقد بدأت أولاها فعلاً بتعيين ميشيل بارنييه، إذ ما كان ماكرون ليُعَيِّنه من دون التحقّق من عدم تعرّضه لملتمس رقابة يعصف به وبحكومته، فقد صرّحت زعيمة حزب التجمّع الوطني (اليميني المُتطرّف)، مارين لوبان، بأنّ الوزير الأوّل المُعيَّن رجلٌ يحترم التجمّع الوطني، ويخاطبه كباقي الأحزاب السياسية، وعليه ستعطى له الفرصة، ممّا يعني مباركةً ضمنيةً، سيّما أنّ ميشيل بارنييه أظهر مواقفَ يمينيةً مُتشدّدةً خلال ترشّحه للانتخابات التمهيدية لحزب الجمهوريين لرئاسيات 2022. وقد ردّ بارنييه الصاع صاعين فصرّح، حين مراسيم تسلّمه السلطة، بأنّه سيتواصل مع كلّ الأحزاب من دون استثناء في رسالة طمأنة مباشرة، وقد يُنبئنا هذا بوجود صفقةٍ سرّيةٍ بين ماكرون ومارين لوبان، مفادها عدم إسقاط الحكومة مقابل تنازلات، كإدخال التمثيل النسبي في النظام الانتخابي، وانتهاج سياسةٍ مُتشدّدةٍ في ملفّ الهجرة؛ وهذا ليس جديداً، لا في سياسات ماكرون ولا في طريقة حكمه، إنّه أسلوب التحايل والمناورة والمراوغة، وبذلك نجح. لكنّ الفرنسيين فطنوا له، وبات نصفهم يرجو استقالته، فمراوغاته ومناوراته أصبحت تطاول، لا السياسيين فقط، بل جوهر الديمقراطية نفسها.

باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
عمر المرابط
مهندس معلوماتيات، باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية، نائب عمدة سابقا في الضاحية الباريسية.
عمر المرابط