قابلية الفوضى
إشارات عديدة في مؤشّر السلام العالمي (بروتوكول جنيف)، ومحاولة لقياس وضع السلام للدول والمناطق. وهو من إنتاج معهد الاقتصاد والسلام، ووضع بالتشاور مع فريق دولي من الخبراء والمعاهد ومراكز البحوث، بالتعاون مع مركز دراسات السلام والنزاعات في جامعة سيدني في أستراليا. ويعتمد المؤشر على ثلاثة معايير رئيسية تشمل: مستوى الأمن والأمان في المجتمع، والصراع المحلي والعالمي، ودرجة التزود بالقوة العسكرية، بالإضافة إلى معايير أخرى ذات العلاقة بالشؤون الداخلية والخارجية للدول.
ذكر التقرير أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تبقى "الأدنى" في مؤشّر السلام في العالم، للعام السابع على التوالي، رغم تحسّن طفيف في بعض المؤشرات. وكشف المؤشّر عن تحسّن النتائج في 12 دولة من بين 20 دولة في المنطقة، فيما سجلت ثماني دول تدهورًا في مؤشر السلام (مصر، فلسطين، لبنان، ليبيا، السودان، العراق، سورية، اليمن). وتحتل قطر المرتبة الأولى عربيا (23 عالميا) في المؤشّر الإيجابي، تليها الكويت (39 عالميا)، الأردن (57 عالميا)، الإمارات (60 عالميا)، عُمان (64 عالميا)، المغرب (74 عالميا)، تونس (85 عالميا)، والبحرين (99 عالميا)، فيما أصبح اليمن في أسفل القائمة، المرتبة 18 في مؤشّر السلام في الشرق الأوسط وحتى في العالم (162 عالميا). كما شهد السودان تدهورا كبيرا (157 عالميا) في مؤشّر السلام في المنطقة، بعدما شهد تدهورًا في جميع المجالات، فيما تحسّنت المؤشرات في ليبيا (151 عالميا) بعد هدوء نسبي في الفترة الماضية.
تحتل قطر المرتبة الأولى عربيا (23 عالميا) في المؤشّر الإيجابي
ليست هذه القابلية للفوضى جديدة، في غياب لحظة المراجعة التي تنصّ على حفظ العبر، بهدف تحسين نوعية العمليات المقبلة. التقرير مهم، ليس لأن من شارك في صياغته مجموعة من الجامعات والباحثين والخبراء، على جانب من السمعة والخبرة، بل إنه يستميل آلة قياس كمية، جامعية، وغير سياسية. مع أنها مؤشّرات تأتي ضمن نسق اجتماعي وديمغرافي متغير. التقييم الوارد مستقل، لا مجاملة فيه، فالنظام الإقليمي العربي لا يعمل في بعض أجزائه، لا سيما قدرة المنظمات غير الحكومية في تطبيق التوجيهات المعروفة منذ سنوات، وهي مبادئ "الأولوية" المعطاة في دعم سلطات الدولة، حتى هذه الخطابات تعتريها التباساتٌ من نوع إلحاحات الطوارئ في إنقاذ حيوات الناس قبل إعادة البناء.
تطرح بعض المعطيات أسئلة تخضع للنقاش، مثل مواضيع احترام حقوق الإنسان (مع تصاعد حملات تشويش على هذه الدولة المتقدّمة في اللائحة أو تلك لجهة عدم الالتزام بالمواثيق الدولية ذات الصلة) .. النزاعات المستمرّة، ومن بينها مستوى نزاع المليشيات وانتشار الأسلحة ودرجة العسكرة (مكتملة الشروط في السودان وليبيا واليمن والعراق ولبنان)، والجريمة، والسيولة الأمنية، وظاهرة اللجوء والهجرة، ومستوى العلاقات مع الجوار، والأمن الغذائي والجوع والفقر والأزمات السياسية، والصدمات النفسية. كلها تخفي أشكالا من العنف، ما يصيب وسط المدن بأكملها، مع عجز الجهات المحلية والإقليمية والدولية عن تقديم المساعدة، أو قلة إدارتها.
اعتمد التقرير على تركيب محدّدات اقتصادية وعسكرية متغايرة، وغير ثابتة سنة كاملة كوحدة زمنية في ظل متغيرت تابعة: الحرب الأوكرانية، أزمة الطاقة بعد تلك الحرب، أزمة الأمن الغذائي، أزمة المياه المتصاعدة في المنطقة (العراق ومصر والمغرب والسودان). فالسياق متغير، ويجري في وتائر متسارعة، مبادئ الحيادية والاسقلالية في المبادرات تستدعي النقاش في ترتيب الأولويات والأهداف المختلفة، ثم هناك التحوّل في مسألة أشكال العنف. فالتقرير يعتمد في مؤشّرات العنف على قدرة المجتمعات، أو "قابلية الفوضى". مثلا، يسجّل تحسنا نسبيا في ليبيا، بسبب وقف الاقتتال المباشر، ولكن مع مشهد سياسي متحرّك بسيولة، مع عودة الانقسام السياسي، والتلويح باستخدام القوة، وتأخر المسار الدستوري، يعني تأخّر السلام.
ليست المسألة موارد بشرية، المسألة في قابلية دول للسقوط في الفوضى، في غياب حوكمة النسق السياسي
في استخلاصات التقرير، كيفية التحكّم بالثروة وصناعتها (نموذج الدول الخليجبة)، فالمعطى الأساسي في مؤشّر الاستقرار والسلام هو القوة الداخلية العربية التي تساهم في منع صناعة الفوضى، لأن بعض الدول المتعثرة تحوّلت إلى ساحات لصراع الآخرين، عناصر داخلية تلعب دورا أساسيا في الحوكمة من عدمها، مثال الحالة التونسية المتفرقعة مع الرئيس قيس سعيّد، أو في إيجاد نظام من الحكم العربي يستخدم خدمةً لأغراض الآخرين (العراق ولبنان وسورية). الحل داخلي في النهاية، في دول قادرة على تحقيق السلام، ذلك أن دولة مثل ليبيا، أو الجزائر، قد تمتلكان إمكانات وثروات أغنى من قطر أو الكويت. .. غالبية الدول الخليجية تملك قدرات وحكمة، وسياسات ناضجة، عوامل مساعدة في التعامل مع مواردها الذاتية. ولكن المسألة ليست مسألة موارد بشرية، المسألة في قابلية دول للسقوط في الفوضى، في غياب حوكمة النسق السياسي، ووسط كم كبير من المؤثرات والمتغيرات الدولية التي يعاني منها الشرق الأوسط والشمال الأفريقي.
ملاحظة أخرى تتعلق باعتماد التقرير في العلوم السياسية على مسألة الحروب المستمرّة التي تدوم أكثر من وقت معين، فيما مسألة وقف إطلاق النار قد لا يعوّل عليها كثيرا في بنائية المؤشّرات المعتمدة، ثم غموض المؤشّر فيما يتعلق بالأراضي الفلسطينية المحتلة، كأن التقرير يلمح إلى تحسّن في الأوضاع، فيما يعاني قطاع غزة من الحصار، وكذلك الضفة الغربية. كل فلسطين تخضع لاحتلال إسرائيلي، ولاستمرار أحوال هذا الاحتلال وتضاؤل فرص السلام. عبارة المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، عن بلدان جنوب أوروبا (اليونان والبرتغال وإسبانيا) مستخدمة للتشبيه عبارة "كسل أهل البحر المتوسط"، تصلح في دول عربية عديدة. مهارات الحكم تعني التوقع، وفق العبارة التي صاغها إيميل دو جيرادان، وكرّرها بيار منديس فرانس. عبارة لم تعد موجودة عند قادة سياسيين كثيرين، الأكثر نزوعا إلى الاختباء خلف الأزمات، حتى يبرّروا فشلهم في الإعلان عن مسؤولياتهم. النقد قد يحمل تاريخا طويلا مضادّا للديمقراطية، تنديدا بالقادة الديمقراطيين، وبالمؤسسات البرلمانية، وسمات الاقتراع العام، وينتقل التعبير بالشعبوية إلى بعض المفكّرين والمثقفين، وإلى فئات شعبية لها ميولها السيئة، هو سوء النوعية السياسية التي تغذّي مشاعر الإحباط على المستويات كافة، ثم ضعف القدرات على البناء الإداري التي لا تتسم بواقعية، في تحدّ للمشكلات السياسية، فتحصرُها في المجالين، المفترض والممكن، في صورة الواقعية الاقتصادية، وقوانين السوق، والالتزامات الدولية.. كما لو أن دولا لا توقف اندفاعاتها نحو الفوضى، قد يتطلب ذلك القدر القليل من الصراع على السلطة، والتعاون بين المناطق الأكثر تاثرا بالأزمات.