في وُسع عمّان أن تفعل
طَرَدَ الملك الحسين السفير الأميركي في عمّان، وأعطاه مهلةً 12 ساعة للمغادرة، في العام 1970، بعدما عدّ ما اشتملت عليه رسالةٌ من السفير إلى حكومة بلاده في واشنطن "مسّاً بكرامة الأردن والأردنيين". أَخبرنا بهذا رئيس الوزراء الأردني الأسبق، زيد الرفاعي، في مقابلة الزميل ياسر أبو هلالة معه، على شاشة "الجزيرة" في 2009. وللحقّ، ربّما فاجأَنا أن نعرفَ هذا، نحن جيلُ هزائم اجتياح بيروت في 1982 وما بعده. وإذا صحّ أنّ الأردن، في إجرائه ذاك، كان أول دولةٍ تطرُد سفير الولايات المتحدة، على ما قال الرفاعي الذي أفاد أيضاً بأنّ أميركا كانت قد أوقعت على الأردن عقوباتٍ أربع سنوات بعد حرب 1967، فإنّ المؤكّد أنّ السماء لم تنطبق على الأرض، ولم تحتلّ الولايات المتحدة عمّان أو الرمثا بعدما انطرَد ذلك السفير. تماماً كما أنّ شيئاً من مثل هذا لم يحدُث عندما أخذ الملك الراحل، إبّان الغزو العراقي الكويت، في صيف 1990، قرارَه الذي خالف فيه الولايات المتحدة (ودول الخليج التي غضبت أيّما غضب)، ولا عندما أبلغ الملك الرئيس الأميركي، بيل كلينتون، بعد محاولة الموساد قتْل رئيس حركة حماس، خالد مشعل، في عمّان بتسميمه، بأمرٍ من رئيس الوزراء نتنياهو، أنّ "مستقبل اتفاقية السلام متّصلٌ بحياة مواطن أردني" (بحسب آفي شلايم في كتابه "أسد الأردن"). لم تتّجه أيٌّ من البوارج الأميركية إلى المنطقة لتهديد الأردن، وإنما "أمر" كلينتون نتنياهو بتوفير التّرياق الذي يُنقذ مشعل، وهذا ما وقع. وفي التفاصيل، أبلغ الملك رئيس الولايات المتحدة أنّه، إذا مات مشعل (وصفَه لاحقاً بأنّه "أحد أبنائنا")، سيذهب إلى التلفزيون مساء اليوم نفسه، ويكشف للأردنيين القصّة كلها، ويجمّد اتفاقيّة السلام، ويقدّم الفاعلين الإسرائيليين إلى محاكمةٍ علنيةٍ في عمّان.
إنما تُذكّر هذه المقالة المتعجّلة بتينك الواقعتيْن للقول إنّ معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية ليست مقدّسة (بداهةً، لا يجوز أن تكون كذلك)، وإن السفير الأميركي في عمّان ليس من عِظام الرقبة، تماماً كما السفير الأميركي في الرياض الذي حدث أنّ الملك فهد، في 1988، أمر بمغادرته المملكة، لمّا احتجّ على صفقة صواريخ صينيّة سعودية. إنما تُستعاد تلك الوقائع للقول إنّ في وُسع صانع القرار في الأردن أن يأخذ الموقف المُشتهى، أو المطلوب بلغةٍ أوضح، وهو طرد السفير الإسرائيلي في عمّان، ووضع معاهدة السلام مع تل أبيب في كفّة واستمرار حكومة الاحتلال في جرائم الحرب اليومية في قطاع غزّة في كفّة. ويمكن الردّ على من يستفظعون أمرا كهذا بأنه من أضعف الإيمان، وتُشجّع على إشهاره هنا كلمة الملك عبد الله الثاني في قمّة القاهرة للسلام (بالإنكليزية)، أول من أمس السبت، والتي كانت ممتازةً في توصيفها الحادثَ في غزّة بأنّه جريمة حرب. والمؤكّد أنّ طرد سفيرٍ وجودُه أمرٌ مُنكَر، والتلويح بوقف العمل بمعاهدةٍ مرذولة، لن تعقبهما حربٌ أطلسية، لا سمح الله، على الأردن. وإذا تذكّرنا أن الأردنيين تحمّلوا بعض حصارٍ أميركيٍّ على بلدِهم (ميناء العقبة) إبّان حرب الخليج في 1991، فإنهم سيتحمّلون ما هو أقسى لو أراد الإسرائيليون والأميركان أيّا من الأفعال الخارجة عن القانون الدولي تجاه بلدهم. والتسابق الذي يُبديه آلاف الأردنيين (من مختلف المحافظات) إلى عبور الحدود مع فلسطين، وإن انطبعَ بانفعالٍ عاطفيٍّ ظاهر، وكذا الاعتصام الذي يُرابط فيه شبّانٌ أردنيون أمام سفارة دولة الاحتلال في عمّان، يؤكّدان المؤكّد الذي أبانته بالأرقام استطلاعات "المؤشّر العربي" السنوية (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، ومنها نسخة 2022، وفيها أنّ 94% من الأردنيين يرفضون اعتراف حكومة بلدهم بإسرائيل.
ليست السطور أعلاه دعوةً إلى انتحار الأردن، لا قدّر الله، ولا إلى توريط قيادته وجيشه وأهله بشيء، بل هو التمادي الإسرائيلي الذي لا يتوقّف عن الاستخفاف بالدم الفلسطيني، الموصول بداهةً بالدم الأردني، أوجبتْها. وهذه جرائم الحرب التي لم تعُد أعصابُنا، منذ أزيد من أسبوعين، تتحمّل تواتُر أنبائها، كما سابقاتٌ عليها، في غزّة وعموم فلسطين، تؤشّر إلى البديهي، وإلى أن ثمّة مساحةً لفعلٍ سياسيٍّ أردنيٍّ أوسعَ من الخطابيّات المقدّرة، إلى ما يشبه طرد سفيرٍ أميركيٍّ قبل زمنٍ بعيد، إلى تلويحٍ جدّيٍّ بتجميد معاهدة السلام قبل زمن أقلّ، إلى ما يُشبه الذي بادرت إليه كولومبيا قبل أيام، طرد سفير إسرائيل فيها. والذي يُطلَبُ وينكتبُ هنا هو أضعف الإيمان كما نوّه سطرٌ سابقٌ، وكما يجري التنويه في المُختَتم أيضاً.