في معنى أن ينتحر صحافي
مرّت أيام على انتحار الصحافي في مؤسسة الأهرام المصرية، عماد الفقي، خيّمت فيها على الوسط الصحافي المصري حالة من الدهشة والتساؤل بشأن ملابسات الحادث، ودوافع إقدام الزميل على الانتحار. وسارع كثيرون من صحافيي مصر إلى توجيه أصابع اتهام إلى رؤسائه والبيئة المؤسّسية التي أحاطت به في الأعوام الأخيرة، فيما التزم صحافيو النظام والموالين له الصمت التام. وباستثناء رئيس تحرير "الأهرام" الذي وجد نفسه مضطرّاً إلى نفي اتهام مباشر له باضطهاد الفقي، لم يصدُر أي رد أو تعليق من بقية رؤساء الفقي أو من مسؤولي "الأهرام"، وأيضاً القائمين على الإعلام في مصر.
يبدأ فهم ما جرى، والذي يمكن حدوثه لكثيرين أمثال عماد الفقي، من التعرّف إلى هذا الصحافي، وإلى حياته العامة والشخصية من قرب، لتحديد مدى توافر دوافع مباشرة للانتحار أو انتفائها. عماد الفقي إنسان سوي لا يعاني عقداً نفسية أو أمراضاً عضوية من شأنها دفعه إلى اليأس من الحياة. لا يتعاطى المخدّرات ولا يتناول الكحوليات، وليست لديه مشكلات اجتماعية أو مآسٍ حياتية ذات شأن. ولا يواجه أزمات اقتصادية طاحنة، ولا يعاني مستوى معيشة متدنياً. إذاً، هو مواطن مصري طبيعي، لا هو مليونير مُرفه، ولا هو كادح يعاني الفقر والحاجة.
من هنا، المدخل السليم للنظر في انتحار عماد الفقي، هو فهم النموذج، فهي مسألة حالة لا شخص. والفقي صحافي، أي ينتمي إلى فئة خاصة من الشعب، لا تزال تحظى بخصوصية ومكانة متميزة، وإن تراجعت نسبياً في الأعوام الأخيرة. وشأن العاملين في كل المجالات، توجد داخل هذه الفئة تفاوتات، ويتموضع أصحابها في مكانات مختلفة. وبمعيار التصنيفات المؤسسية، يُعد الفقي من ذوي المكانة المتميزة، لكونه يعمل في كبرى المؤسسات الصحافية المصرية. لكن هذا التميز، مقارنة بالعاملين في المؤسسات والصحف الأخرى، لا يسري بالضرورة على وضعه بين أقرانه في "الأهرام" ومكانته أو بيئة عمله داخل المؤسسة.
كان عماد الفقي في "الأهرام" نموذجاً للصحافي المصري العادي، الذي لا يملك سوى قلمه ومصادره الصحافية. وليس لديه مصادر دخل خفية، كالعمل لحساب أجهزة أو التخديم على رجل أعمال أو تأجير قلمه لمن يدفع هنا وهناك. لم يكن من نوعية الذين يقدّمون خدمات أو تنازلات تضمن لهم الترقي والصعود الوظيفي، فيرتقون إلى أعلى المناصب بهذه المسوّغات فقط لا لكفاءة ولا لسجل أعمال ولا لأي أفضلية موضوعية على الفقي وأمثاله من الشرفاء.
عماد الفقي صحافي في أكبر مؤسسة صحافية مصرية، ومن أعرق الصحف العربية. فكيف الحال بالنسبة إلى آلاف آخرين يعملون في مؤسّسات أقل حجماً وأهمية، وليست تحت الضوء. ومعروفٌ أن صحافيين مصريين كثيرين منتمين إلى مؤسسات أو صحف صغيرة، ليس لهم مصدر دخل ثابت سوى مبلغ بسيط لا يزيد على مائة دولار تقريباً تقدّمه شهرياً نقابة الصحافيين.
إن كان الفقي قد نحر نفسه شنقاً بحبل رفيع باعد بين رأسه وجسده، فإن مئات بل آلافاً آخرين أمثاله يُنحَرون يومياً. إذ تعجّ الصحافة المصرية بطوابير طويلة من الصحافيين الذين لديهم ما يكفي من دوافع الانتحار ومسبباته، بين مضطهدين في صحفهم، ومفصولين تعسّفاً، ومنتظرين الانضمام إلى النقابة منذ سنوات. وليست مثالب الصحافة المصرية وأوجاع الصحافيين إلا عيّنة ممثلة لأحوال المصريين عموماً وأوجاعهم في مختلف القطاعات.
ولمّا كانت الصحافة صوت المجتمع وحالُها من حاله، فإن انتحار أصحابها، ولو ببطء وصمت، صرخة تعبّر عن معاناة شرائح مجتمعية أخرى ومآسيها. وحيث إن الفقي نموذج للإنسان المصري الشريف، البعيد عن الفساد والألاعيب والتلاعب، وهو النموذج الغالب على المجتمع المصري، فلا بد أن يكون انتحار ذلك النموذج جرس إنذار، ليس فقط لمن يعي أو يعقل، حتى لمن يبحث عن مصالحه وبقائه.