في مستقبل كرد سورية بعد الانتخابات التركية
تكبُر هواجس الكُرد في سورية بعد نتائج الانتخابات التركية أخيرا، وحصد نتائجها الباهرة "تحالف الشعب" بقيادة حزب العدالة والتنمية، مقابل خسارة حزب الشعوب الديمقراطية - اليسار الأخضر، والذي تقول تُركيا إنه الواجهة السياسية لحزب العمّال الكردستاني، تلك الخسارة لا تقتصر على تراجعه بحوالي أربع درجات مقارنة بالانتخابات الماضية، إنما يعود إلى عاملين مُركبين يؤثّران مباشرة على حجمه ووجوده السياسي في الساحتين الكُردية والتركية معاً، أولها: المعارضة التركية خرجت متقهقرة في 14 و28 مايو/ أيار، وهو ارتداد عكسي على التحالف السداسي والشعوب الديمقراطية؛ ومستقبلها مبهم ولن تخرُج بسرعة ومعافاة من الهزيمة، وهو ما يعني تأثيره المباشر على الانتخابات المحلية المقبلة، ورجحان فوز "العدالة والتنمية" برئاسة بلديتي أنقرة وإسطنبول اللتين خسرتهما لصالح المعارضة في الدورة الماضية. والثانية: بات من شبه المستحيل أن يُغير "العدالة والتنمية" من السلوكيات التي تقول عنها "الشعوب الديمقراطية" إنها تضرّ بتركيا، فالصلاحيات التي يملكها الرئيس التركي أردوغان وسيطرته على السلطة منذ قرابة العقدين، ورئاسته خمس سنوات مقبلة، وبما يملكه من وزن ضخم في البرلمان التركي يعني أنه لن يرضخ لأيّ تهديد، بما فيها ما يقوله الشعوب الديمقراطية ما بين السردية والواقع.
أما عن العلاقة الطردية التي تجمع كُرد سورية وقضيتهم مع تركيا وانتخاباتها فهي تقوم أساساً على مبدأ رئيسي، وهو تصدّر مصير المنطقة الكردية في سورية ومصيرها ومستقبلها للسياسات الخارجية التركية منذ بدايات الحدث السوري، خصوصا مع وصول حقان فيدان، المسؤول الاستخباراتي والرجل الأمني القوي، ومُحبط مُحاولة الانقلاب التركي، إلى منصب وزير الخارجية، فإنه يعني أن مستقبل العلاقات التركية الخارجية لن يصب في مصلحة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية، بل إن كامل الملفات التي يحملها حقّان ستدخل في خدمة السياسة الخارجية لتركيا، ومصير القضية الكردية في تركيا لا تُشكل حلقة مهمة أو مفصلية في محاور العلاقات الخارجية الأوروبية، الأميركية، الروسية مع تركيا، وبما تحمله أنقرة من أهمية وتحكمها بملفّات حيوية ومصالح عديدة مع الأطراف كافة، من المستبعد أن يُدافع أحد عن "قسد" الإدارة الذاتية، لو رغبت تركيا بعملية عسكرية جديدة، بل تشكل التحدّيات الخارجية والداخلية أمام الرئيس التركي أردوغان عوامل قوة أكثر من كونها عوامل ضغط عليه.
في المقابل، تتحدّث نتائج الانتخابات عن الأداء الهزيل للمعارضة التركية، خصوصا "الشعوب الديمقراطية" الكردي. مع ظهور نقاشات حادّة حول ضرورة عقد مؤتمر استثنائي للحزب في الشهر المقبل (يوليو/ تموز) لانتخاب قيادة جديدة بعد الفشل الذريع الذي مُنيت به، وتراجع شعبيّته، والمخاوف الجدّية الذي تعتري مستقبله في مناطقه التقليدية في الانتخابات البلدية المقبلة، خصوصا أن أردوغان توعّد بتشديد الصراع مع "العمّال" الكردستاني في ولايته الجديدة، ولا يملك "الشعوب الديمقراطية" أيّ أريحية في عدد المقاعد البرلمانية الذي يمنحه فرصة عرقلة مشاريع "تحالف الشعب".
أيام عصيبة على الكُرد في سورية وتركيا، ولن تجدي سياسة رفع الشعارات والتغنّي بأمجاد ماضية
وتحمل حقيبة "العدالة والتنمية" جملة ملفات داخلية أهمها: إعادة ترتيب أوراق الحزب؛ للخروج بفاعلية أقوى، وحركية أكثر للنجاح في الانتخابات المحلية المقبلة، والحفاظ على تصدّره النتائج الانتخابية. إيجاد مزيد من الحلول الجذرية لتداعيات الزلزال الذي ضرب ولايات تركيا، خصوصا بعد حصدهم غالبية الأصوات في عديد من تلك الولايات. ملف اللاجئين السوريين، الوضع الاقتصادي ومستقبل الليرة التركية، التوازنات الانتخابية والعلاقات ضمن البرلمان التركي. كُل هذه القضايا، لا يُشكل فيها كُرد سورية وتركيا أدنى درجات التأثير، ولا يملكون أيّ أوراق تؤثر على حزب العدالة والتنمية، بل لا يشكل "الشعوب الديمقراطية" شيئاً في هذه المعادلة. كما أن المعارضة التركية لا تشكل أيّ هاجس أمام أردوغان، والتحالف السداسي مرشّح للتفكيك، خصوصا بعد إعلان حزب "الجيد" نيته بالانسحاب وانتهاء دوره بعد الانتخابات الرئاسية، وهو كفيلٌ بانفراط عقد ذلك التحالف، وتعرّضه لانتكاسةٍ جديدة. ومستقبل العلاقة بين أردوغان والشعوب الديمقراطية من بين أبرز القضايا الساخنة وخطوط المواجهة خلال السنوات الخمس المقبلة. وهو ما يعني أن "تحالف الأمة" سيتلقى ضرباتٍ وصعوباتٍ في الانتخابات المحلية، لاعتماده على أصوات "الشعوب الديمقراطية". ومن المحتمل القوي أن يتعرّض الحزب الذي تعتبره تركيا واجهة لـ"العمّال الكردستاني" لحصار قانوني يؤدي إلى حلّه، وهي انتكاسة كبرى له في مسعاه إلى التعافي من تداعيات الهزيمة الانتخابية، وسيُضعف تحالف الأمة أيضا. وكلها عوامل تحتاج إلى نقاط قوة خارجية لتأثيرها على الداخل.
أما التوجهات التركية خارجياً: غالباً ستسعى تركيا في السنوات الخمس المقبلة نحو تحقيق مزيد من التوازن الاستراتيجي لعلاقاتها بين أوروبا أميركا، وعلاقة مصالحها القوية مع روسيا، والحصول على مزيد من الاستقلالية. وتتنوّع مصالح أنقرة مع المجتمع الدولي، فهي جزءٌ من الحلف الأطلسي والمنظومة الأمنية الاقتصادية الغربية، وقسم كبير من مصالحها مع أنقرة في مجال الأمن والطاقة، خصوصا في سورية وجنوب القوقاز والبحر الأسود. وفي الوقت الذي يطالب فيه الغرب من تركيا فكّ الارتباط مع روسيا، وخصوصا في ملف حرب الأخيرة على أوكرانيا، لكن سياسة التوازن بين روسيا والولايات المتحدة هي لأجل عدم التخلّي عن مصالحها مع روسيا ولا عضويتها في حلف الناتو. وإيجاد مزيد من الضغوط والتحديدات على حدودها الجنوبية. في المقابل، جوهر الخلاف والتوترات خلال الأعوام الأخيرة بين أنقرة وواشنطن هو بسبب دعمها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وتعاون أميركا العسكري مع اليونان وقبرص. وتملك تركيا ورقة ضغط كبيرة على حلف شمال الأطلسي في قضية توسعته وضم السويد، والأغلب أن لا مشكلة لأنقرة مع رغبة توسيع الحلف، إنما الفيتو التركي يعود إلى عاملين، الأول: إيواء السويد قيادات كردية تركية معارضة، ودعمها الوحدات الكردية بشكل أو بآخر. والثاني: تعاون الغرب مع "قسد" في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أيّ أن علاقات الغرب مع "قسد" معهم هي الجذر الأساسي للتوترات مع تركيا، والرغبة بتوسيع "الناتو" ورقة قوية في يد أنقرة تمنح الأخيرة أريحية بالمراوغة وحصولها على مقاربات جديدة في فرض شروط لتعامل أميركا وأوروبا مع "قسد".
فوز أردوغان يعني استمرار انخراط تركيا الفعّال في المنطقة، وتعميق شركاتها مع الفاعلين الإقليميين والدوليين
أما العلاقات بين "قسد" والنظام السوري فهي علاقة توازنات اللحظة الحرجة، فدمشق ستشترط ثلاثة ملفّات دفعة واحدة: حل "الإدارة الذاتية"، وهذه غير مستعدة لهذا، لوجود كتلة بشرية (موظفين) تفوق كتلتها في مؤسّساتها، عدداً وتمويلاً. والملف الأمني والعسكري، وعودته بالكامل إلى سيطرة الجيش السوري من دون شراكة ولا خصوصيات. وأيضاً شبكات الاقتصاد الناشئة، فعلى سبيل المثال، يبلغ سعر مركبة موديل 2005 في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية قرابة 5000 $ هو سعر مركبة موديل 1983 في دمشق، عدا عن المعابر الكثيرة وحقول الطاقة وطرق نقلها. وعلى اعتبار أن "قسد" أكثر تنظيماً وتسليحاً، وانحسار تأثير "داعش" ومثيلاتها في عموم شمال شرق سورية، و"شبه" التجانس المجتمعي في شمال شرق سورية، سيكون المطلب السوري في أي حوارات بين أنقرة ودمشق، إن حصلت، سيكون الحصول على شرق الفرات وليس غربه؛ فالأخيرة فقيرة مقارنة بمناطق سيطرة "الإدارة الذاتية"، ووجود كتلة بشرية تقدر بخمسة ملايين فرد يعارضون بكليّتهم النظام السوري، وهي سوق تصريف المنتجات التركية، وتعتمد في اقتصاداتها ومشاريعها وفقاً لربط كل منطقة بولاية تركيا، وليس من مصلحة النظام الحصول على تلك المناطق التي سيترتّب عليه تمويلها والصرف عليها، وهي لا تشكّل نقاطا اقتصادية قوية، مقارنة بشمال شرق سورية، إضافة إلى وجود جبهة النصرة في إدلب.
فوز أردوغان يعني استمرار انخراط تركيا الفعّال في المنطقة، وتعميق شركاتها مع الفاعلين الإقليمين والدوليين، وهي التي تقوم بدور التوزان بين الشرق والغرب بين العرب والمسلمين مع الغرب، من دون أن تصبح جزءا مطحونا من الصراعات بين روسيا وأميركا أو بين الأخيرة والصين، بل إن تصفير المشكلات مع دول الإقليم والجوار سيزيد من دورها وعلاقاتها مع روسيا وعضويتها في حلف الناتو. في المقابل، سيتجه الوضع الكردي في سورية نحو مزيد من العواطف واللطميات، ووصف تركيا بكل السباب والألفاظ، من دون معالجة محفزات أو الهجوم أو الضغط التركي.
أيام عصيبة على الكُرد في سورية وتركيا، ولن تجدي سياسة رفع الشعارات والتغنّي بأمجاد ماضية، ولا الرهان على "إرادة الشعب" الذي هرِمَ من كثرة الوعود وأوضاعه الكارثية. وكل الملفات والعلاقات ومستقبلها تدخل في مصلحة تُركيا وبالضدّ من "قسد" و"الإدارة الذاتية" وعموم المنطقة الكُردية.