11 نوفمبر 2024
في مسألة الباقورة والغمر
تصلح إطلالةٌ على المضامين التي عبّرت عنها الصحافة الإسرائيلية، أخيرا، بشأن امتناع عمّان عن تجديد العمل بـ"عقد الانتفاع" في منطقتي الباقورة والغمر الأردنيتين مع حكومة دولة الاحتلال، تصلحُ للتعرّف، للمرة المليون على الأقل، على ذهنية الاستحواذ والاستعلاء والغطرسة التي تستحكم في العقل الإسرائيلي الذي قال عنه غسّان كنفاني مرة إن الشيطان يجلس فيه القرفصاء. لم تفعل الحكومة الأردنية سوى أنها استعادت سيادتها التامة على أراضٍ احتلتها إسرائيل في العامين 1950 و1968 (خارج الحروب!)، بموجب معاهدة السلام الموقعة في 1994، والتي قضى ملحقان فيها بتأجير المنطقتين (الباقورة 6 آلاف دونم والغمر 4 آلاف دونم) 25 عاما، ولم تمدّد هذا التأجير الذي لا يملك واحدُنا، على مبعدة ربع قرنٍ من توقيع المعاهدة المرفوضة، غير استهجانِه أصلا. لا قيمة لحقوق الأردن وشعبه وقيادته في أخيلة الحاكمين في تل أبيب، وفي مدارك الأذرع الإعلامية والأمنية الإسرائيلية. على الأردنيين، ملكا وشعبا ونُخَبا، أن يستجيبوا لطلبات الجار الإسرائيلي، فلا يصير، كما تم تصويرُه في الصحافة المتحدّث عنها هنا، مفزوعا من الاستقواء الأردني هذا، ومن كل هذا الجفاء شديد البرودة الذي صار يمحضُه الحكم في عمّان لإسرائيل. قارئ بعض التعليقات والتغطيات في الصحافة العبرية يعجب من فرط الاستعباط فيها، عندما تتجاهل أن الأردن لم يُبادر إلى أي عداءٍ من أي نوع، ولا مارسَ شيئا خارج المعاهدة إياها، وتوسّل القانون وحده فقط في استعادة ما له.
من موقع المناهض كل تطبيعٍ من أي جنسٍ ولون، ليس مهما أن العلاقات الأردنية الإسرائيلية تعبُر في طور سيئ منذ أعوام، وأن الملك عبد الله الثاني لم يلتق نتنياهو منذ العام 2014. وإنما المنطق السياسي المحض يجعل دلالةً غير هينة القيمة لرفض الحكم في الأردن طلباً إسرائيلياً تنظيم احتفالٍ مشترك الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) بمناسبة اكتمال 25 عاماً على توقيع المعاهدة، ذلك أن صانع القرار في عمّان، ومعه المؤسسة الأمنية، يستشعر أنها صارت فوق الاحتمال مقاديرُ تبخيس دولة الاحتلال، وبرضا أميركي ظاهر، الاعتبارات الأردنية في غير إجراءٍ أقدمت عليه إسرائيل، منذ صار رئيس حكومتها، نتنياهو، يرى أن في وسعه أن يقوم بالذي يريد، من قبيل التحريض من أجل إنهاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، والانتهاكات المتزايدة في القدس المحتلة والأماكن المقدسة فيها، من دون أي احتسابٍ للتحسّس الأردني (الهاشمي) من هذه الأفعال الشنيعة في استفزازها. وهذان مجرّد مثاليْن من بين حزمة أفعالٍ حكوميةٍ إسرائيليةٍ لم تجعل عمّان في حالٍ يمكّنها من منح العلاقات الباردة شيئا من الحرارة، غير أن هذا الأمر لا يعني أن تسيفي برئيل في "هآرتس" أصاب في ذهابه إلى أن إسرائيل والولايات المتحدة لم تزوّدا الملك عبد الله الثاني بـ "الذخيرة الكافية" لكي يتخذ قرارا مختلفا بشأن مسألة الباقورة والغمر، وإنما كان في وسع هذه الذخيرة لو تيسّرت أن تجعل الأداء الأردني في ملفاتٍ أخرى، متصلةً بالعلاقات مع إسرائيل، على غير هذا الصدود الذي نرى، والذي يذكُر بعضُهم أنه لم يخدش وتيرة التعاون الأمني والاستخباري عالي المستوى، والله أعلم.
لم يكن الأداء الأردني الرسمي مُرضيا للأردنيين إبّان قتْل موظفٍ في سفارة العدو في عمّان مواطنيْن أردنيين في مقر السفارة صيف 2017، على غير إصرار الحكومة الأردنية على الإفراج غير المشروط عن المواطنيْن، هبة اللبدي وعبد الرحمن مرعي، وعلى عدم تمديد أي انتفاعٍ إسرائيلي في الباقورة والغمر (هناك ترتيبات متفق عليها لعمل مزارعين إسرائيليين حتى مايو/أيار 2020)، سيما وأن حكومة الاحتلال لم توفر وسيلة للمساومة والمراوغة والضغط والابتزاز والتشاطر إلا ومارستها، صدورا عمّا تبدّى في تحليلاتٍ صحافيةٍ إسرائيليةٍ أن دولة إسرائيل دفعت "ثمنا كبيرا وصعبا، ولكنه محتمل" (!) في التخلّي عن المنطقتين الأردنيتين، وهو ثمنٌ سوّغ الندب والنحيب الغزيريْن اللذيْن فاضا في كلام إسرائيلي مقيت.. القصة كلها في هذا المطرح، في التفكير العنصري الاستعلائي الحاكم في دولة الاحتلال، أما تقييم الأداء الأردني في هذه القضية وتلك، فموضوعٌ آخر.
لم يكن الأداء الأردني الرسمي مُرضيا للأردنيين إبّان قتْل موظفٍ في سفارة العدو في عمّان مواطنيْن أردنيين في مقر السفارة صيف 2017، على غير إصرار الحكومة الأردنية على الإفراج غير المشروط عن المواطنيْن، هبة اللبدي وعبد الرحمن مرعي، وعلى عدم تمديد أي انتفاعٍ إسرائيلي في الباقورة والغمر (هناك ترتيبات متفق عليها لعمل مزارعين إسرائيليين حتى مايو/أيار 2020)، سيما وأن حكومة الاحتلال لم توفر وسيلة للمساومة والمراوغة والضغط والابتزاز والتشاطر إلا ومارستها، صدورا عمّا تبدّى في تحليلاتٍ صحافيةٍ إسرائيليةٍ أن دولة إسرائيل دفعت "ثمنا كبيرا وصعبا، ولكنه محتمل" (!) في التخلّي عن المنطقتين الأردنيتين، وهو ثمنٌ سوّغ الندب والنحيب الغزيريْن اللذيْن فاضا في كلام إسرائيلي مقيت.. القصة كلها في هذا المطرح، في التفكير العنصري الاستعلائي الحاكم في دولة الاحتلال، أما تقييم الأداء الأردني في هذه القضية وتلك، فموضوعٌ آخر.