في محاربة سياسات القهر .. هواتف عمومية في سجن الدامون
لم يحقق الشعب الفلسطيني إنجازات إلّا بقدر ما ناضل من أجلها، ولم يحقق الأسرى إنجازات إلّا بقدر ما دفعوا ثمنا لها من إضرابات عن الطعام وعقوبات وما الى ذلك. ويأتي تحقيق مطلب تركيب هواتف عمومية في أقسام أسيرات سجن الدامون ليكون مثالا لمراكمة إنجاز إضافي لإنجازات الأسرى ولمطالبهم طويلة الأمد في مقارعة منظومة السجن والسجان. سبقها إنجاز تركيب هواتف في قسم الأشبال في السجن ذاته، ولم يكن مطلب الأشبال وحدهم، بل مطلب الحركة الوطنية الفلسطينية في السجون عامة. ولم يأت هذا الإنجاز من فراغ، ولم يكن منّة أو لطفا من المؤسسة الحاكمة ومنظومة سجونها، فهي لا تفعل ذلك إلا بقدر ما يناضل الأسرى لذلك.
مطلب تركيب هواتف عمومية في أقسام الأسرى تاريخي تكرّر مرارا وتكرارا من الأسرى في النضالات طويلة الأمد التي خاضتها الحركة الوطنية في السجون، في مواجهة سياسات القمع الإسرائيلية التي خصّت الأسرى السياسيين بأنظمة خاصة ضمن ما سمتها "منظومة الأمن"، لتحوّل شروط اعتقالهم وسجنهم إلى شروط اعتقال وفق المنظومة الأمنية وفي رعايتها. فيصبح كل أمر، ولو بسيطا، رهنا لسياسات أمنية تهدف بالأساس لتقييد حرية الأسير، ومنع أي تواصل له مع العالم خارج جدران السجن، ومن ضمنها تحديد الزيارات للأهل من الدرجة الأولى، وحرمان الأسرى من زيارة الأصدقاء والمعارف والأقارب درجة ثانية وأكثر.
وتأتي هذا الزيارات نفسها ضمن محدوديات منع التواصل الجسدي بين الأسير وعائلته، حتى في أصعب اللحظات وأقساها كوفاة أحد أفراد العائلة، لا يقدر الأسير أن يعانق أفراد عائلته، أو حتى أن يضع يده بين أياديهم. حيث تجري اللقاءات في غرف يفصل فيها بين الأسير وعائلته حائط من زجاج ثبتت على أطرافه الداخلية والخارجية سماعات هاتف، يتم التواصل المراقب من خلالها، وأحيانا يكون بدل الزجاج شبك من معدن، لا يقدر من خلاله الأسرى التواصل مع عائلاتهم. كما وتمنع زيارة أسرى سابقين أسرى حاليين في السجون، واشتراط ذلك بشروط مقيدة كثيرة ترضخ لمزاج السجان أكثر مما ترضخ لاعتبارات منطقية. ومنع استعمال الهواتف ومعه منع أي انفتاح على عالم التواصل الاجتماعي والإنترنت ومنع المقالات والمطبوعات وتقييد عدد الكتب الداخلة للسجون، التي تصل إلى الأسرى من أهليهم ونوعيتها، حيث تسمح تعليمات السجون بإدخال كتابين لا أكثر في الشهر لكل أسير، وتُمنع الكتب السياسية والكتب التي تحمل خرائط وصورا لقادة سياسيين، خصوصا فلسطينيين، وتُمنع كتب تحمل صور علم فلسطين. ومنذ أن منع التعليم مُنعت الكتب التعليمية وتقلصت قائمة المسموحات لتنحصر بالروايات والقصص... مقابل هذا التقييد والمنع تحت مسمّى "الأمن"، يحظى السجناء الجنائيون بإمكانية التواصل الهاتفي مع عائلاتهم منذ لحظة اعتقالهم.
.. وحين أغلقت السجون أبوابها أمام كل زيارة سواء العائلات أو المحامين مع بداية الإغلاقات في بدايات جائحة كورونا، وفرضت تقييدات كثيرة لاحقا على الزوار، منها فرض ضرورة التطعيمات على الزوار، انقطع الأسرى عن كل إمكانية تواصل مع العالم، حيث انقطعت الزيارات. زاد الأمر سوءا عدم قدرة الأسرى التواصل هاتفيا مع عائلاتهم للاطمئنان عليهم وطمأنتهم. وتحول المعزولون خلف الجدران إلى معزولين في سجن داخل سجن، حيث لا خارج لهذا السجن.
هل الإداري مفتوح؟ من أي معبر؟ أي ساعة تقريبا؟ أسئلة كثيرة يطرحها الأهل، حيث لا إمكانية تواصل مباشر بينهم وبين الأسرى.
مع بداية "كورونا" توجهت عدة مؤسّسات حقوقية إلى مصلحة السجون الإسرائيلية، وطالبتهم بإيجاد بدائل للزيارات المقطوعة - الممنوعة والى حين عودتها. وألزمت المحكمة مصلحة السجون بالسماح لأسيرات الدامون بمحادثة هاتفية واحدة في شهر رمضان الذي تزامن مع هذا المطلب. وكان هذا الاتصال بمثابة هدية العيد للأسيرات وعائلاتهم. وأذكر أن إحدى الأسيرات، حين سألتها عن الاتصال وطول المدة ذكرت لي طول المكالمة بالثواني، فالثواني في هذه الحالة لا تقل أهمية عن الدقائق الخمس المتاحة في حينه.
.. وكثيرا ما تصل إليّ اتصالات من عائلات الأسيرات يطلبن معرفة ما إذا ما كانت ابنتهم ستتحرّر اليوم؟ وهل الإداري مفتوح؟ من أي معبر؟ أي ساعة تقريبا؟ أسئلة كثيرة يطرحها الأهل، حيث لا إمكانية تواصل مباشر بينهم وبين الأسرى.
يحفظ الأهل عن ظهر قلب تاريخ التحرّر. ويحفظون عن ظهر قلب تاريخ الإداري (إمكانية إطلاق سراح مبكر وفق حاجة مصلحة السجون)، حيث تحدد مصلحة السجون الحد الأعلى لعدد الأسرى في السجون، فإن فاق هذا العدد أو وصل إليه يحق لمدير السجن ومن صلاحيته إطلاق سراح مبكر، وفق ما يسمّى التحرّر الإداري، وهو يختلف عن الاعتقال الإداري (اعتقال بدون تقديم لائحة اتهام وبدون تحديد موعد لإطلق السراح ويتم بأمر من قائد المنطقة العسكري). بالتالي، لا يمكن معرفة ما إذا ما كان الأسير/ة سيتحرّر/تتحرر إلّا في اليوم ذاته، وبعد أن تصل قوائم الأسرى المحرّرين في اليوم نفسه إلى ضابط الأسرى. ولا تنفع الاتصالات الهاتفية المبكرة مع مصلحة السجون، حيث تصل القوائم، أو يصرّح بهذا في حوالي الساعة العاشرة صباحا، بينما الأهل ينتظرون من الصباح، وعلى الأغلب لم يعرفوا النوم ليلتها.
وبعد أن يتأكد الأهل من إمكانية التحرّر في اليوم ذاته، يبقى السؤال في أي ساعة، فساعة التحرّر ومن التجربة المتراكمة تكون في ساعات بعد الظهر من الثالثة وصاعدا، ويصعب تحديد ساعة يتعلق بعوامل عدة، منها عدد الأسرى الذين سيطلقون بذلك اليوم والمحطات التي ستتوقف فيها البوسطة التي ستقل الأسرى المحرّرين، هل هي مباشرة إلى المعبر أم تقف في سجون أخرى. والأهم أنها تكون رهن قرار مدير السجن. ورغم ذلك، الأهل حاضرون من ساعات الصباح تحسبا وفرحا.
من الأمور الصعبة في تجربة الأسر أن تعتاد هذه الاتصالات المفاجئة من داخل السجن ثم تنقطع، ويكون عليك أن تعتاد من جديد انقطاعها
ويبقى السؤال الأخير الذي قليلا ما تعطي مصلحة السجون إجابة عنه، ويبقى رهن الحس الشخصي، من أي معبر، الجلمة أم سالم. وحتى وإن أعطى ضابط الأسرى معلومة للمحامي من أي معبر، يبقى الأهل في ريبة ولا يثقون بالمعلومة. وأيضا منعا لأي التباس، وكي لا تصل الأسيرة/ الأسير المعبر إلى، ولا يجدوا من ينتظرهم، أن يتم توزيع المنتظرين المستقبلين من أهل وأصدقاء على المعابر الممكنة، حيث لا مكان انتظار هناك في الحر والبرد في الشمس والمطر، صابرين منتظرين أبناءهم وبناتهم المحرّرين.
تعود كل هذه الصعوبات أولا إلى منظومة السجن القاسية، وضمنها عدم إتاحة هواتف للأسرى والأسيرات، تمكّنهم من التواصل مع العائلة، حيث من الممكن اختصار كل هذا التوتر وعدم الوضوح، حين تحرّر أسيرة من سجن الدامون.
وتتساعد الأسيرات المحرّرات إن أمكن بالأشبال، حيث يبلغ الأشبال المحرّرون إن صادف تحرّر أحدهم في اليوم نفسه أهاليهم، ويطلبون منهم التواصل مع أهل الأسيرة المحرّرة. ولكن كثيرا ما تبقى المعلومات هذه، ساعة التحرّر ومكان معبره، رهن الانتظار ورهن اللحظة الأخيرة للتحرّر.
.. ليس مفهوما ضمنا هذا الأمر، التواصل الهاتفي بين الأسرى وعائلاتهم، خصوصا حين يعتاد الأسير وتعتاد العائلة وتيرة تواصل معينة وفق إيقاع الزيارات. وتأتي أحيانا اتصالاتٌ كهذه من داخل السجن تكون أشبه "بالخلل" في هذا النظام. هو خلل إيجابي، لكنه يخلّ بالوتيرة العادية، حيث يحرّك رغبة في أن يكون هذا الخلل دائما ورغبة في التواصل الدائم وانتظار التواصل الدائم، فاذا اعتاد الأسير وعائلته وتيرة جديدة مبنية على إيقاع هذا الخلل الحادث، والذي يتيح تواصلا هاتفيا، يصبح قطعه وانقطاعه بمثابة صدمة جديدة يحتاج الطرفان أن يعتادها. فحياة الأسر رغم صعوبتها وقهرها تبنى على نظام معين ووتيرة معينة يعتادها الأهل والأسير/ة، وكل خلل- تغيير فيها، وإن كان إيجابيا هو تغيير في وتيرة ويتطلب جهوزية نفسية عاطفية جديدة. ولا أبالغ إذا قلت إن تلقي اتصال من الأسير من داخل السجن بعد فترة انقطاع ثم تعلم أن الأمر غير متاح هو بمثابة صدمة. عليك أن تجد الكلمات بسرعة، وتعبر عنها بسرعة، ولا مكان للصمت، عليك أن تضبط الوقت في هذه الدقائق القليلة اللعينة التي تتحوّل بذاتها إلى منظومة من الوقت والتحكّم، عليك أن تسبقها وتضبطها، كي تقول كل ما تريد. عليك أن تختار أن تكون مستمعا أو متكلما، فبعض الدقائق لا تتيح ذلك كله. وحق الأسير أن يقرّر، فهو المحروم أصلا من هذا الاتصال والتواصل، وله حق السؤال والاستفسار عن العائلة والأهل والبلد والعالم.
مقابل التقييد والمنع تحت مسمّى "الأمن" مع الأسرى في سجون الاحتلال، يحظى السجناء الجنائيون بإمكانية التواصل الهاتفي مع عائلاتهم منذ لحظة اعتقالهم
ومن الأمور الصعبة في تجربة الأسر أن تعتاد هذه الاتصالات المفاجئة من داخل السجن ثم تنقطع، ويكون عليك أن تعتاد من جديد انقطاعها. وتأتي هذه الاتصالات من داخل السجن لتفرض نظاما هو العشوائية بحالها، فيكون عليك أن تكون جاهزا لتلقي اتصال كهذا في أي مكان وأي وقت، ويحدث أن تكون في ساعة قيادة سيارة في شارع سريع وتتلقى اتصالا، ويحدث أن تكون في اجتماع عمل وتتلقى اتصالا. وعليك أن تضبط العشوائية في حياتك وفق نظام رنات هاتفٍ، يتغير رقمه وموعده ووتيرة اتصاله.
هذا الأمور والعشوائية الجميلة ستضبطها الهواتف العمومية التي تم تركيبها في قسم أسيرات الدامون للأسيرات وعائلاتهن، حيث ستتاح لكل أسيرة أربع مكالمات هاتفية في الأسبوع لأرقام محدّدة تقرها مصلحة السجون طبعا. هي دقائق جديدة أشبه بهدية دائمة للأسيرات والعائلات عليهم أن يعتادوها. وهذا النظام الجديد هو بمثابة مفهوم جديد للعلاقة بين الطرفين، علاقة ضبطت وتيرها على إيقاع اللقاءات الشهرية في غرفة اللقاءات بين الأهل والأسرى انقطعت أحيانا ومنعت. هو نظام وايقاع جديد للعلاقة والتواصل، يكون على الأسيرات والأهل أن يعتادوه.
.. تدور في ذهني منذ سماع الخبر فكرة ما هو الكلام الذي سيقال في هذه المحادثات، وكيف يمكن التعود على هذا الوضع الجديد، والذي هو فسحة، فُسحة من الأمل ومن الحرية ومن التواصل.