في مئوية نزار قبّاني
لم يُعْطِ أدباؤنا ومثقفونا مئويةَ الشاعر الكبير نزار قباني (21 مارس/ آذار 1923- 30 إبريل/ نيسان 1998) ما تستحقّ من حفاوة وتقدير، فنحن لا نجانب الصوابَ عندما نزعم أن البلاد العربية قد لا تشهد ولادة شاعر من طرازه خلال حقب متقاربة. في النصف الأول من القرن العشرين، فاجأ نزار قبّاني شعراءَ جيله، وعمومَ الأدباء والنقّاد، بلون شعري لا يمكن تصنيفه مع المديح، أو الفخر، أو الحماسة، أو الرثاء، ولا حتى الغزل، فشغلُه كان يتركّز على تلمّس أسرار جسد المرأة التي تعيش في هذه البلاد، والحَفْرِ في الجبال والأسوار التي رُفعت، عبر السنين، حول ذلك الجسد، يستخرجه بأناة، كعامل منجم محترف، ويزيل عنه الأتربة، والرمال، والأغبرة، ويعمل على تنقيته وتنظيفه، وتقريبه من الحالة الإنسانية اللائقة، ثم يغنّي أو ينشد له أجمل الأشعار، ليستحقّ، تلقائياً، لقب "شاعر المرأة".
من حقّ الشاعر المجدد الكبير، نزار قبّاني، أن يُزهى بعبقرية جَدّه أحمد آقبيق، المعروف بأبي خليل قبّاني، الذي كان شاعراً، ومشخّصاً مسرحياً، وعازفاً، ومُطْلِقَاً للألحان العذبة كما لو أنها أسراب فراشات، مبكّراً في إبداع ما تقوله الحبيبةُ لحبيبها: ضع على صدري يمناكَ فما/ أجدرَ الماءَ بإطفاءِ اللهبْ.. كان الجدّ، أبو خليل، مرمى سهام المتشدّدين والمتزمتين في اللغة والشعر والعقيدة، فطاردوه في كل مكان، وأحرقوا مسرحه، متّهمين إياه بنشر الخلاعة والفسوق. والحفيد، نزار، مثله، نجمٌ أومض في سماء الإبداع، والشهرة، حتى إن الأخوين الرحباني اللذيْن كانا يكتبان الأشعار بنفسيهما، ويلحنّانها لتشدو بها فيروز، ولا يقبلان من أشعار الآخرين سوى قلّة من الكبار، كأبي نواس والأخطل الصغير وسعيد عقل، أخذا منه، في وقتٍ مبكّر من تجربتهما الإبداعية، قصيدةَ "لا تسألوني ما اسمُه حبيبي" التي بلغت من عذوبة الصورة الشعرية القولَ: واللهِ لو بحتُ بأي حرفٍ/ تكدسَ الليلكُ في الدروبِ.. وعلى ما يبدو أنه كان يريد مبارزة عاصي ومنصور الرحباني وسعيد عقل في أشعارهم التي تشدو للشام، فقدّم للرحبانيين قصيدة "موّال دمشقي"، التي يسترسل في حبّها، ويسهب، حتى يبلغ القول: والنهرُ يُسمعني أحلى قصائده/ والسروُ يلبس بالساقِ الخلاخيلا.
عندما يدافع أي شاعر، نزار أو غير نزار، عن المرأة، فإنما يدافع عن الإنسان، والوطن، والحياة. وللعلم، لم يهادن نزار، في سبيل هذا الدفاع النبيل؛ حاكماً، ولا جلاداً، ولا سيّافاً، بل هجاهم، وأضحك الناس عليهم، ففاز بعدائهم له، ومَنْعِ دواوينه من التداول، كما لو أنها خبز "وحشيش" وقمر، وصار مَن يُضْبَط في عبّه ديوان لنزار يُوَبَّخ، ويزجر، ويتهم بأخلاقه، ولكن نزار كان ينام عن هذه الشوارد، ويستيقظ على ضحكة فتاةٍ عاشقة، أو صوت الهاتف يرن، يرفع سمّاعته ليسمع "ألو شاعرنا الكبير نزار".. بأصوات المبدعين المجدّدين الكبار، ومنهم عبد الحليم حافظ، ومحمد عبد الوهاب، ومحمد الموجي، ونجاة الصغيرة، يحيّونه، ويعبّرون له عن السحر الذي أصابهم من جمال قصائده، وجِدَّتِها، وأنهم لم يصادفوا شاعراً قبله، أو في زمانه، يجعل فساتينَ المرأة ترقُص فرحاً بقدوم حبيبها، أو شاعراً يذهب إلى عرّافة لتقرأ له طالعه، ثم يصفها وهي تجلس، والخوف بعينيها، تتأمّل فنجانه، فيصيبها الذّعر إذ ترى سماءَه ممطرة، وطريقه مسدوداً، وحبيبةَ قلبه تسكن في قصر مرصود، من يدنو من سور حديقتها مفقود.
قد لا يكون نزار متفوّقاً عن كل مَن سبقوه وعاصروه من شعراء، ولكنه تفرّد بسهله الممتنع الذي جذب عامّة الشبان والبنات إليه، يقرأون أشعاره سرّاً، أو علانية، وينقلونها إلى دفاتر رسائلهم، فإذا أراد، أو أرادت أن تعبّر له عن حبّها، تنقل إلى دفتر رسائلها بعضاً مما كتب نزار، ثم تحرق طرف الورقة، ولا تذكُر اسم أستاذ الحب نزار فيها، فتبدو وكأنها هي الشاعرةُ، ويبدو الشابّ كأنه هو الشاعر.