في مآثر عبد المنعم أبو الفتوح
يتجاوز المناضل المصري النبيل، عبد المنعم أبو الفتوح، رئيس حزب مصر القوية، المرشّح الأسبق لرئاسة الجمهورية، عبد المنعم أبو الفتوح، عامه الرابع سجينا منذ 14 فبراير/ شباط 2018، إثر إحراجه نظام الجنرال الانقلابي عبد الفتاح السيسي، لمّا فتح له هذا النظام باب الخروج من مصر، وجعله يمرّ من مطار القاهرة بأمان لحضور مؤتمر في لندن، متيحًا له فرصة نادرة لا يجدها آلاف المقاومين السلميين الممنوعين من الخروج من الكنانة، ويعانون من شظف العيش ومطاردة السلطات. سافر الرجل، القدوة في الأخلاق وأدب الاختلاف مع الجميع، سواء من الخصوم أو من رفاق الدرب الطويل الذي امتد عشرات السنوات، وهو صاحب التاريخ البطولي الطويل الذي بدأه شابا في عمر 16 عاما بمناصرة الرئيس جمال عبد الناصر، ولمّا وقعت الهزيمة المريرة في 1967 تظاهر ضده. ثم قاد اتحاد طلاب جامعة القاهرة عام 1973 ليواجه الرئيس أنور السادات في وقفة بطولية، وهو (أبو الفتوح) طالب في كلية الطب عمره 26 عامًا في مؤتمر بالجامعة عام 1976، ليمنع النظام حينها تعيينه في الجامعة رغم تفوقه، ثم يسجنه في اعتقالات سبتمبر 1981 الشهيرة.
مع تقدّم أبو الفتوح في العمر ونضجه وزيادة نشاطه اعتقله نظام المخلوع عام 1996 خمس سنوات
وشاءت الأقدار أن يظل المناضل فذًا مميزًا لا يهاب، فعارض الرئيس حسني مبارك كما احتج على سابقيْه. ومع تقدّم أبو الفتوح في العمر ونضجه وزيادة نشاطه اعتقله نظام المخلوع عام 1996 خمس سنوات، ثم يشارك لاحقًا في ثورة 25 يناير، وهو يقارب الستين من عمرٍ نرجو أن يكون مديدًا. وكان قد واصل ترقّيه في جماعة الإخوان المسلمين حتى صار عضوًا في مكتب الإرشاد (أعلى هيئة فيها)، وفوجئ، بجرأته المعهودة في الحق، بمفاوضة الجماعة سرًا، في غضون أحداث الثورة وسيلان الدماء، نائب الرئيس ومدير المخابرات، عمر سليمان، فاحتج على المكتب، ليتّسع الخلاف مع الجماعة، بعد سقوط مبارك، ثم يعلن أبو الفتوح ترشّحه للرئاسة، وليقرر مجلس شورى عام الجماعة فصله، من دون تفكير بعواقب إبعاد "الإخوان المسلمين" هذا الرجل الذي يعدّ من أبرز كوادرها النشطة حركيًا، العاقلة المفكرة معًا. ثم ترشّح محمد مرسي للرئاسة عقبها لينافسه أبو الفتوح بشرف ونزاهة، وينال المركز الرابع في انتخابات 2012 الرئاسية، بعد مرسي والفريق أحمد شفيق وحمدين صباحي، والثلاثة الأوائل كانت تؤازرهم مؤسسات أو تيارات مدنية، وكان أبو الفتوح فردًا وحيدًا فنال نحو أربعة ملايين صوت صحيح. وفي نهاية حكم مرسي، اختار الثورة عليه وعلى الجماعة معًا، وكان هذا خياره الشخصي، فنزل في "30 يونيو" (2013)، لكن شرف الخصومة لديه جعله لا يلبي نداء عبد الفتاح السيسي في 3 يوليو/ تموز 2013، ليخسر أبو الفتوح بجهره بكلمته، ووقوفه أمام الاستبداد الطرفي: الإخوان والسيسي معًا!
تُنسب مقولة "كلمة الحق لم تبق لي صديقًا" للفاروق عمر بن الخطاب الذي شابهه أبو الفتوح في قوة المواجهات ما رأى الحق في جانبه. وكانت مساحة الخلاف مع الجماعة تفجّرت سابقًا عقب زيارته نجيب محفوظ في مستشفى الشرطة بالعجوزة، إثر نجاته من محاولة اغتياله عام 1995. يومها، تزلزل التيار الإسلامي في صورته العصيِّة على التطور فضلًا عن الاستيعاب، وقد رأوا في إهداء أبو الفتوح محفوظ قلمًا دلالة على ترحيبه بالأدب المناهض للدين. وعلى الرغم من حرص الشيخ محمد الغزالي على زيارة محفوظ أيضًا، إلا أن اتجاهًا في جماعة الإخوان المسلمين أخذ جانبًا من أبو الفتوح، وتنامى الاتجاه مع رؤيته انفتاحه على مختلف التيارات، وتفاقمت الأزمة لمّا رأى الجميع أن الرجل يسبقهم بخطواتٍ فهمًا وإدراكًا وإلمامًا بالتحدّيات، وأيضًا "كاريزما شخصية" قادرة على جذب الجماهير، فأزاحه "الإخوان" افتقادًا منهم مزاياه، وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعًا، وكان أن ساهموا بأنفسهم في بوادر محاصرة أبرز كوادرهم وتاريخهم حصارًا يوشك أن يفنيهم أعداؤهم به، إنْ لم يتداركهم بعض عقلائهم برحمة من خالقهم.
جهر أبو الفتوح بموقفٍ عملي يوضح أنه من القوة بمكان يكفي لئلا يهرُب من مصر، ففضح جبن الجميع وتخاذلهم
وعلى الدرب الاستنباطي نفسه لغد المناضل ومستقبله، فهم السيسي قدرات أبو الفتوح، فحاول احتواءه بطريقته، عبر سبابه، كما في تسريب الصحافي ياسر رزق في 2013، بعيد رفض الرجل حضور بيان انقلاب 3 يوليو، ثم انتبه الجنرال إلى وجود أبو الفتوح داخل البلاد مجددًا مع انتخابات 2018 الرئاسية المفترضة، فطلبه منافسا، بعد أن لعب الدور التمثيلي بإحكام حمدين صباحي في 2014، فلما رفض بإباء، ولم يجد السيسي نقطة مظلمة في تاريخ الرجل أو اللصيقين به تجبره على الاستجابة، ما جعل استمرار بقاء أبو الفتوح في مصر أمرًا صعبًا عصيًا على طاغيةٍ حرص قبلها على سجن الرئيس الشرعي السابق، ثم التسبب في مقتله، وإزاحة أحمد شفيق تالي مرسي في الانتخابات، بإلزامه الإقامة الجبرية في المنزل، ثم حرق ورقة صباحي بجعله "دوبليرًا" في انتخابات يعرف الأخير قبل غيره أنها مزيفة. وعلى طريقة "مَنْ يهرُبْ يربحْ ويرِحْ"، سهّل السيسي لأبو الفتوح طريق الخروج من مصر كلها لما أراده الأخير وقتيًا، وانتظر الجنرال عدم عودته، فأصرّ المناضل على العودة، قائلًا قبلها في حوار معه، ومطبقًا جملة "عشّة جنب نيلها تسوى ألف قصر" عمليًا. وقال إن أزمة مصر في السيسي وليست في عموم الجيش، ما جعل الأخير يستشيط ويتربص به عقب العودة ليسجن أبو الفتوح المقبل على السبعين.
لمّا قارب المناضل في السجن مدة السنتين التي تجاوز قانون الحبس الاحتياطي الظالم في فبراير/ شباط 2020، بتهم أبرزها "مشاركة جماعة إرهابية مع العلم وترويج أغراضها"، ومع عدم أن جماعة الإخوان المسلمين إرهابية، فإن الجنرال يعرف أيضًا حقيقة خروج أبو الفتوح تمامًا عن تنظيمها ومسيرة حراكها، ومع تزايد الأمراض على الرجل، حتى وصل إلى "الانزلاق الغضروفي" بآلامه الصعبة. وعلى الرغم من ذلك، رفض المناضل استقبال أسرته احتجاجًا على قتله في السجن، وتدويره قضائيًا بإحالة القضية 440 لسنة 2018 حصر أمن دولة عليا التي تضمّه وآخرين إلى محكمة "جنايات أمن الدولة"، مع قضية بديلة احتياطيًا ملفّقة أيضًا، هي 1781 لسنة 2019 "حصر أمن دولة"، بغية استمرار عدم الإفراج عنه، لمّا جهر بموقفٍ عملي يوضح أنه من القوة بمكان يكفي لئلا يهرُب من مصر، ففضح جبن الجميع وتخاذلهم. يتابع الشرفاء معاناته القضائية وآلامه في محبسه المتجدّد، متمنين له ولمآثره السلامة، فلا ينسونه كما يريد الجنرال ونظامه ويخططان.