رفات طه حسين وشرف الخصومة
عاش طه حسين (1898 ـ 1973) حياة ملؤها المعارك الفكرية والأدبية، سواء مع أبرز أدباء عصره، مثل مصطفى صادق الرافعي، زكي مبارك، عباس محمود العقاد، أو حتى مع الأزهر الشريف سعيًا وراء التخلي عن الدراسة فيه، والاتجاه إلى الجامعة المصرية (جامعة القاهرة)، أو عبر معارك كتابه "في الشعر الجاهلي" الصادر عام 1926، والذي أعاد نظرًا فيه ليصدره لاحقًا باسم "في الأدب الجاهلي". وفي جميع الأحوال لم تكن تنقصه، رحمه الله تعالى، الشهرة أو الأضواء، حتى أنه توفي بعد أن رفض تكريم عدة دول له بسبب ظروفه الصحية وأمراض شيخوخته. ولكن لم يكن يخطر للراحل، ولا حتى لأشد معارضيه تشاؤمًا وسوداوية أن مقبرته في دائرة حي الخليفة في القاهرة ستواجه بعد نحو نصف قرن من وفاته خطر الإزالة التامة، لتعلن إحدى حفيداته أن العائلة تفكر في نقل رفاته إلى فرنسا، ليلقى هناك ما تراه "تكريمًا" يليق بطه حسين، بتركه على حاله على أقل تقدير، ثم فجأة، وفي هذه الظروف والملابسات الغريبة، بل الكابوسية، يخرج أحد المحسوبين على "الإسلاميين" للأسف ببحث موسّع في دورية معروفة عمَّا رآها مؤامرة ساهم فيها طه حسين إعلاء للشأن الغربي، ولإرهاق الأمة بالتبعية.
ليس مقصد هذه المقالة الدفاع عن فكر طه حسين، ولا عن شخصه، وليس الهجوم عليه بالتالي، أو حتى التصدّي لمهاجمي فكره. بل تقرّ بحق نقد الأفكار (لا أصحابها)، سواء أكان الأخيرون على قيد الحياة أم فارقوها. وينأى الكاتب بنفسه، وبغيره خصوصا إذا ما أرادوا نسبة أنفسهم للإسلام الحنيف، عن النقد غير المناسب، فنقد الآراء والأفكار يجب ألا يتطاول على الشخصيات، خصوصا مَنْ هم في رحاب الله، فإن أحدهم لا يستطيع اليوم التعرّض لرجل في السلطة ببلادنا، ولو بنقد عمله العام، خوفًا من بطش الأنظمة، فيتلذّذ بالتطاول على آخرين غادروا الحياة وهم في رحاب خالقها وخالقه، فضلًا عن عدم قراءة بعض الإسلاميين الموقف الخاص بمن ينتقدونه من أبعاده، وإلا لراعى الكاتب الذي تعرّض لطه حسين أن قبرًا يضم رفات من يتعرّض لها بالنقد اليوم يقارب الاندثار من الوجود، فضلًا عن أن الرجل الذي يهاجم أفكاره وآراءه ومعتقداته تراجع في أخريات أيامه عن كثير منها، وليس ذنبه أن الإعلام الذي احتفى به مهاجمًا طرفا من الثوابت غضّ الطرف عنه لما أراد التراجع.
أحدهم لا يستطيع اليوم التعرّض لرجل في السلطة ببلادنا، ولو بنقد عمله العام، خوفًا من بطش الأنظمة، فيتلذّذ بالتطاول على آخرين غادروا الحياة
يهاجم النظام المصري قبور الراحلين بضراوة لغير سبب معقول، وإنما رغبة منه في زيادة ازدحام تخطيط العاصمة القاهرة وفوضاه، بإضافة عدد جديد من الجسور بما لا يعرف أمهر المهندسين المختصين بالطرق سببًا لها، فمن غير المعقول أن يكون الإنكليز بنوا من قبل جسرًا متحركًا بطول أقل من عشرة أمتار في الإسماعيلية أمام مبنى قيادة هيئة قناة السويس الضخم، فأنشأ المحتل فوق ترعة الإسماعيلية "كوبري" صغيرا، استطاع خدمة حركة المرور ومواكبتها بكفاءة قرنا كاملا، في حين أن الجيش أنشأ اليوم بدلًا منه آخر طوله أكثر من 850 مترا، اللهم إلا لو أن النظام يريد أن يبسط سيطرة أمنية محكمة على أبناء العاصمة والمدن الكبرى، إن هبَّوا ثائرين اعتراضًا عليه، عبر "كباري" تمثل شبكة عملاقة يسهل عليها اختراق الطرق لمزيد من قمع المصريين. وفي المنتصف، يدعو بعضهم إلى اكتتاب عام إنقاذًا لقبر طه حسين. ولا نعرف مَنْ ينقذ رفات آلاف المصريين الآخرين؟ ولا كيف يمكن أن يطمئن المصريون لرفاتهم في بلد يأكلهم أحيانًا ويريد طرد رفاتهم بعد أن تأكله الأرض أمواتًا؟ وحتى ما أعلنته محافظة القاهرة في 3 سبتمبر/ أيلول الجاري أن القبر لن يُمسّ يثير تساؤلاتٍ بشأن مسار الكوبري الجديد المزمع إنشاؤه مكانه ومساره إن لم يتم المساس بالقبر، أم أن الأمر تهدئة للخواطر كالعادة، حتى يعاود النظام ما سبق أن خطّط له ببراعة؟ ألم يكن ما سبق كله أولْى بالباحث النظر فيه والتطرق إليه في ظل ظروف ومناخ يلفّان وطنا مهدّدا بالديون المستمرة والعطش، ولو نسبيًا، فضلًا عن انهيار منظومات أساسية كبرى فيه؟
أمّا تراجع طه حسين عن بعض أفكاره، فذكر عنه أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية عبد الحليم عويس مرارًا وتكرارًا. ومع إقرارنا بأن ما ما سبق يصب في دين الراحل، وهو ما يحاسبه الله تعالى عليه، ولكن أو ليس من المفترض أن يراعيه إسلاميون مفترضون، أم أن أعينهم لا ترى أو ترصد إلا ما ينتقص من القيمة؟! وهم مُجبرون (في الوقت نفسه) على غضّ الطرف عن مجمل ما تعانيه الأوطان، وما يتعرّضون له هم أنفسهم في حياتهم ومآل أجسادهم، وسؤال الله لهم يوم القيامة عن عدم التزامهم بمجمل الأخلاق مع منتقديهم، حتى بعد مماته وتهديد رفاتهم!