في ربيع العروبة

13 ديسمبر 2022
+ الخط -

تشبه مفاجأة طوفان مشاعر العروبة في مونديال قطر المفاجأة التي حصلت قبل عقد، حين انطلق الربيع العربي. في الحالتين، لم تكن ثمّة مؤشّرات يمكن رصدها والبناء عليها، بل على العكس، كان كلّ شيء على جبهة العروبة ساكناً، وربما في حالة احتضار، بدليل أنّ القمّة العربية في الجزائر، وقد سبقت المونديال بأيام، جاءت باهتة الى أبعد الحدود، مع تفاعل وصل إلى حدود متدنية جداً إلى درجة أنّ الشارع العربي لم يكلف نفسه، كما جرت العادة، مدّ لسانه للنظام الرسمي العربي شامتاً ومستهزئاً.
قبل المونديال، ظنّ بعضهم، وربما الأكثرية، أنّ قضايا، مثل العروبة وفلسطين، باتت عدّة نوستالجيا قديمة. لم تعد زحمة القضايا تفسح مساحة لها في وجدان الشعوب الذي أغرقه طوفان النكبات والأزمات ومشاهد القتل والتدمير وغرق قوارب الموت، كما لم تعد تصلح مفاتيح لتحليل الأحداث وفهم ديناميكيات السياسة في المنطقة، تلك مصطلحاتٌ باتت خارج السياسة والاجتماع في المنطقة، والأصح استبدالها بأخرى أكثر حيوية وواقعية وقدرةً على وصف الديناميكيات الجديدة، مثل التطبيع والأقلمة الجديدة وحتى العولمة.
لم يأتِ ذلك من فراغ، بل كان نتيجة تحوّلات هائلة صنعتها الأحداث على مدار العقد الأخير، حيث شهد النظام الرسمي العربي مرحلة تهافت غير مسبوقة، وحروبا إعلامية، كانت تهدف إلى تشكيل الوعي العربي تبعاً لأهواء الأنظمة السياسية، وقد ارتكزت تلك الحروب على الصراعات البينية العربية، حيث جرى تصويرها صراعات وجود، وأنّ المخاطر التي تتهدّد البلد العربي "س" مصدرها الأساسي البلد العربي "ص". وبالمعنى العام، العروبة هي ما أصبحت الخطر الوجودي، وبالتالي لا بد من تفكيك هذه الرابطة وتدميرها.

أغلب من أيد مذبحة بشار الأسد بحق السوريين ادّعوا أنّهم عروبيون، ويسلكون هذا المسلك بدافع من قوميتهم

الأكثر من ذلك أنّ جزءاً معتبراً من الحكام والنخب حاول، باسم العروبة، قتل أحلام الشعوب العربية في التحرّر وكذا التطور والتغيير، فعلى سبيل المثال أغلب من أيد مذبحة بشار الأسد بحق السوريين ادّعوا أنّهم عروبيون، ويسلكون هذا المسلك بدافع من قوميتهم، فبدت العروبة، وفق ذلك، طاردةً كلّ ما هو جميل، وقد حوّلتها السياسات إلى سجن أو مجزرة متنقلة، وجرى احتكارها ضمن فئاتٍ معينة، والآخرون تبعاً لذلك ليسوا سوى عربان متخلفة وهمج.
ما الذي حصل وقلب هذه الصورة، وكيف لعروبةٍ ماتت على مستوى الأحزاب السياسية، وحتى في الإعلام، أن تنبعث مثل المارد في الملاعب والأسواق والمنازل؟ ليس ذلك وحسب، بل أثبتت مؤشّرات عدة ووقائع كثيرة أنّها عملية واعية ومنظّمة، فمنذ البداية كان هناك تماسك شعبي عربي واضح، إذ وقفت الشعوب والنخب العربية مع قطر في مواجهة الحملة التشويهية التي تتعرّض لها، بسبب عنصرية الغرب الاستعلائية، ورغبته في فرض قيم قيمه على الثقافات الأخرى.
وكان واضحاً من التفاعل الحاصل أنّ محرّك هذا الوقوف كان الدفاع عن القيم العربية ورفض تشويهها. واللافت أنّ النخب العربية، بمختلف ألوان الطيف، يسارية وليبرالية وإسلامية، هم من تصدّوا لهذه الحملات، مستخدمين مقاربات وأدوات تحليلية كان أكثرهم ينبذها في السابق، من نوع  الدفاع عن الخصوصية وما تنطوي عليه من قيم ومثل.

دور فاعل لعبته انتصارات المنتخب المغربي في تفجير مشاعر العروبة، وشكّلت المحفز والدافع المباشر، والذي أعطاها الزخم ومنحها شرعية التعبير

التفسير الأوضح أنّ العروبة كانت كامنة في ضمائر عربية كثيرة، ولم يكن في المستطاع التعبير عنها، وأنّها كانت تبحث عن مناسبةٍ وحيز لتتدفق بتلك القوّة. يذكّرنا ذلك بثورات عربية عيّرها بعضهم بخروجها من المساجد، ورفضوا التعاطف معها من هذا المنطلق، من دون الالتفات إلى حقيقة أنّ المساجد هي الأمكنة الوحيدة التي يستطيع أن يجتمع فيها العشرات أو المئات في وقتٍ منعت أنظمة الحكم كلّ اشكال التجمّع.
المذهل أنّ الجيل الشاب الذي ولد في زمن انطفاء العروبة هو من أعلن، وبالصوت العالي والفعل الصريح، عن تمسّكه بالعروبة بوصفها خياراً مصيرياً في القيم والسياسة، وعبّر بوضوح عن تمسّكه بفلسطين، ورفضه كلّ أشكال التطبيع مع إسرائيل، حتى لدى مواطني الدول التي ذهبت بعيداً في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وتلك التي مضت عقود على توقيع اتفاقيات السلام معها، وعندما نقول جيل الشباب فإنّنا نقصد ثلثي الشعب العربي.
السؤال الآن: هل تتحوّل هذه المشاعر إلى أحد مدخلات السياسة لدى الأنظمة العربية في المرحلة المقبلة، أم أنّ الأمر لا يعدو كونه مشاعر وقتية، ستنتهي مع نهاية المونديال أو مع نهاية الحماسة العربية التي اشتعلت بفضل انتصارات الفريق المغربي؟ يقول المنطق إنّ من الأسلم للأنظمة السياسية العربية أخذ هذا المعطى على محمل الجدّ، بل الأكثر من ذلك الاستفادة منه وتوظيفه في صنع السياسات في المرحلة المقبلة، لما ينطوي عليه من قيم مضافة إلى عناصر القوّة العربية، ويدعم قدراتها التفاوضية مع المحيطين، الإقليمي والدولي، وطالما كان الرأي العام القوي والواعي أحد عناصر قوّة السياسات الخارجية للدول، ورافداً وداعماً قوياً لمواقف السياسيين في القضايا الكبرى.
في هذا السياق، لا بد من التنويه بالدور الفاعل الذي لعبته انتصارات المنتخب المغربي في تفجير هذه المشاعر، وشكّلت المحفز والدافع المباشر، والذي أعطاها الزخم ومنحها شرعية التعبير.

5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".