في ذكرى زكريا أحمد
إذا كان، في دولةٍ ما، خمسةُ ملحنين عباقرة، وسألتَ أحدَ المهتمّين بالفن عن ملحّنه المفضل بينهم، لأجابك تلقائياً: إنه فلان... ولكن، أنْ يوجد في دولةٍ مثل مصر عددٌ كبير من الملحنين الذين يشتركون بصفة العبقرية، ووجّه إليك السؤال نفسه، لأعياك الجواب، واحترتَ بين محمد عبد الوهاب، ورياض السنباطي، ومحمود الشريف، وسيد درويش، ومحمد الموجي، وكمال الطويل، وبليغ حمدي، ومحمد القصبجي، ومحمد سلطان... وأما أنا، محسوبكم، فيمكنني أن أغامر، وأعلن انحيازي، تلقائياً، للشيخ زكريا أحمد.
ولد زكريا أحمد في الفيوم، يوم 6 يناير/ كانون الثاني 1896، وتوفي يوم 14 فبراير/ شباط 1961.. لم يحمل لقب "الشيخ" جزافاً، فقد كان أبوه متديّناً، من حفظة القرآن، وهذا النوع من الرجال كانوا يفهمون بالـ"نغم"، ويحضرون جلسات الإنشاد الديني، وكلما ظهر فيهم صاحبُ صوت جميل، يتّجه إلى الإنشاد أولاً، ثم إلى الغناء. أرسله والده للدراسة في الأزهر، ولكنه فُصل على إثر شجارٍ مع أحد زملائه، فكان مصيره خلع اللباس المشيخي، والتشرّد، وقد تمكّن أبوه من إعادته إلى المنزل، ثم إلزامه بحفظ القرآن، عند الشيخ درويش الحريري، وكذلك علّمه الشيخ علي محمود الأذان، والتجويد، والتواشيح. هذه العلوم، التي أصبحت نادرة اليوم، جعلته من أعظم الذين أسّسوا للموسيقى الشرقية الأصيلة في عصر النهضة الموسيقية والغنائية العربية.
ثمّة عدد كبير من المطربين والملحنين الكبار الذين تسبق أسماءهم صفةُ "الشيخ"، فعدا عن المصريين، سيد درويش، وسيد مكاوي، وإمام عيسى، وسيد الصفتي، حمل هذا اللقب سوريون كبار، مثل عمر البطش، وبكري كردي، وأمين الجندي، إضافة إلى أن مَن يبحث في بدايات المطربين الكبار، يجد أنهم يحفظون القرآن، ويتقنون التلاوة والتجويد، وإخراج الحروف... في سيرة أبي خليل القباني أن والده أقام له احتفالاً بختمة حفظ القرآن، وبحسب ما روى صباح فخري، في أحد لقاءاته، أن والده بشّر والدته، ذات يوم: انبسطي يا حاجّة، صباح ختم القرآن، أضف إلى هذا أنه عمل مؤذناً في جامع.
كان نبوغ الشيخ زكريا مبكّراً، فقد أصبح مُنشداً في سنّ الـ 18، وملحّناً في سن الـ 25، وملحنَ أوبريت في سن الـ 28، وفي 1931، لحّن لأم كلثوم التي كانت تصعد بقوة، وبعد عشر سنوات، شكّل معها، وبيرم التونسي، ذلك الثلاثي العبقري، فقدّموا "الأولة في الغرام"، و"حلم"، و"حبيبي يسعد أوقاته"، و"ليلة العيد". وهو يذكر، ضمن لقاء معه، أنه زار والدها، في الصغر، في قرية طوماي الزهايرة، وأمضى في ديارهم أياماً، ويقول: كنتُ أمصّ القصب مع أم كلثوم، ونلعب الكوتشينة على الطبلية. ويضيف: كانت فتاة حرّة غير مقيّدة بالمسؤولية، ولا تحبّ سوى الموسيقى والمرح... وكان له الفضل في إقناع والدها وشقيقها بضرورة الانتقال إلى القاهرة، وتقديم حفلات غنائية فيها.
في رسالته لنيل الماجستير، اعتبر الناقد فيكتور سحّاب زكريا أحمد واحداً من "السبعة الكبار في الموسيقى العربية"، وأما عازف العود العراقي، نصير شمّة، فيصنّفه، مع رياض السنباطي، في خانة الذهب من عيار 24. وحينما أراد شمّة أن يزرع في مسامع طلابه معنى ربع الصوت، والمقامات العربية، لم يجد أنسب من قدرة الشيخ زكريا أحمد على ذلك.
لا يستطيع أحد أن يجزم بوجود منافسة قوية بين هذين العبقريين، ولكن، إذا لاحظنا أن الخلاف بين زكريا وأم كلثوم استمرّ من 1947 إلى 1960، وأن أم كلثوم لم تغنِّ في هذه الفترة لملحن آخر غير السنباطي، فقد نخرُج بنتيجة معقولة، وهنا يجدر بنا أن نشير إلى أن اتفاقية الصلح بينهما نصّت على تقديم ثلاث أغانٍ، كانت أولاها "هو صحيح الهوى غلاب"، من كلمات الطرف الآخر في الثلاثي القديم، بيرم التونسي. وبعد إنجازها بقليل توفي العبقري زكريا أحمد.