في دوافع الانسحاب الروسي من اتفاقية الحبوب
منذ انتقد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، اتفاقية الحبوب للمرّة الأولى في سبتمبر/ أيلول الماضي، بدا أنّه يُحاول ممارسة الضغط على الغرب، من أجل تخفيف العقوبات المفروضة على بلاده، وإدخال تعديلاتٍ على الاتفاقية شرطا لتجديدها بما يشمل إزالة القيود التي تقول موسكو إنها تُعرقل صادراتها من الأسمدة والمنتجات الغذائية، وضمان وصول الجزء الأكبر من صادرات الحبوب عبر البحر الأسود إلى الدول الفقيرة والنامية التي تشتدّ حاجتها إليها بدلاً من الدول الغنية. مع قرار موسكو المفاجئ نهاية الأسبوع الماضي تعليق المشاركة في الاتفاقية، ردّاً على الهجوم الذي تعرّض له أسطولها البحري في شبه جزيرة القرم، يظهر بوضوح أن بوتين لم يعد راغباً في مواصلة العمل بالاتفاقية، أو على الأقل يُريد فرض شروط تعجيزية لتبرير التخلص منها. اشترطت موسكو عودتها إلى الاتفاقية بإجراء تحقيق كامل في الهجوم على أسطولها في القرم، على الرغم من أنها تُدرك مسبقا أن كييف والغرب لن يوافقا على مثل هذا التحقيق، ليس لأنّهما يسعيان إلى إخفاء مسؤوليتهما المزعومة عن الهجوم، بل لأنّه يُضفي شرعيةً ضمنية على القرم جزءاً من الأراضي الروسية.
لدى موسكو بعض الأسباب الموضوعية لإبداء الشكوك في جدوى الاتفاقية التي تنصّ على إزالة القيود على الصادرات الروسية من الأسمدة والمنتجات الغذائية، إلّا أنّ روسيا تشكو من تأثير العقوبات الغربية على وقف صادراتها، على الرغم من أن الأغذية والأسمدة مُعفاة من العقوبات أصلاً. مع ذلك، يرتبط القلق الروسي من الاتفاقية، بشكل أساسي، بالفوائد الاقتصادية الكبيرة التي جنتها أوكرانيا من ورائها، وأيضاً بالتحوّلات التي طرأت على مسار الحرب بفعل الإخفاقات العسكرية المتزايدة التي تواجه موسكو على الأرض، منذ ضمت أقاليم لوغانسك ودونيتسك وزابورويجيا وخيرسون للاتحاد الروسي. كون الاتفاقية مكّنت كييف من تجنّب انهيار اقتصادي يبدو سبباً كافياً لتخلي روسيا عنها. يُمكن ملاحظة ذلك بوضوح من خلال تعافي صادرات أوكرانيا من المنتجات الزراعية بعد سريان الاتفاقية إلى ما يقرب من مستويات ما قبل الحرب. في الواقع، شكّلت الاتفاقية طوق نجاة لأوكرانيا من التداعيات الاقتصادية للحرب. في وقتٍ يعمل فيه بوتين على تكثيف الضغط الاقتصادي على كييف والغرب، يتيح الانسحاب من اتفاقية الحبوب له استثمار وسيلة ضغط أخرى.
يواجه الجيش الروسي صعوبة في الاحتفاظ بزمام المبادرة على الأرض
سيؤدّي توقف العائدات المالية الكبيرة التي جنتها أوكرانيا إلى زيادة المتاعب الاقتصادية على حكومة كييف، والتي ستدفع آلاف الأوكرانيين إلى اللجوء إلى دول أوروبا المجاورة بحثاً عن استقرار اقتصادي، ما يزيد من ضغط اللجوء على أوروبا التي تُعاني أصلاً من أزمة في الطاقة، ونسب تضخّم متزايدة. يأمل بوتين أن يؤدّي الضغط الجديد إلى إضعاف الرئيس الأوكراني زيلينسكي في الداخل، وإثارة مزيد من الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية في الدول الأوروبية على أبواب فصل الشتاء. بالنّظر إلى أن روسيا تذرّعت بهجوم القرم أخيرا لتعليق مشاركتها في الاتفاقية، أصبح مصيرها أكثر ارتهاناً للمسار العسكري للصراع. يواجه الجيش الروسي صعوبة في الاحتفاظ بزمام المبادرة على الأرض، بعد نجاح أوكرانيا في استعادة أجزاء من الأراضي التي استولت عليها روسيا في الشرق بعد الحرب، بينما تحشُد قواتها منذ فترة استعداداً لشن هجوم واسع على مدينة خيرسون الجنوبية لاستعادتها. في ظل فشل تهديد بوتين الضمني باستخدام السلام النووي لحماية المناطق التي ضمّها في إحباط عزيمة كييف على مواصلة هجومها المضاد، وفي دفع الغرب إلى وقف دعمه العسكري لأوكرانيا، فإن روسيا ترى في العودة إلى فرض حصار على صادرات الحبوب الأوكرانية وسيلةً لحرمان كييف من طوق النجاة الاقتصادي.
تلجأ موسكو إلى استخدام اتفاقية الحبوب أيضاً في إطار صراعها مع كييف والغرب
علاوة على ذلك، كرّست اتفاقية الحبوب وضعاً جديداً في الصراع على جنوب أوكرانيا، حيث كبّلت قدرة موسكو على استخدام أسطولها في البحر الأسود في الحرب، وأجبرتها على التخلّي عن طموحاتها بالسيطرة على مدينة أوديسا الجنوبية. مع اقتراب معركة خيرسون، من المرجّح أن تلجأ روسيا إلى الضغط العسكري على أوكرانيا في أوديسا، وهو ما لم يكن مُمكناً في ظل استمرار اتفاقية الحبوب. على عكس الفترة الماضية التي ساعدت فيها الحوافز الروسية والأوكرانية في إبرام هذه الاتفاقية قبل أربعة أشهر، فإن التصعيد العسكري الراهن يُقلل من هذه الحوافز بالنسبة لموسكو، ويدفعها إلى تسخير كل وسائل الضغط التي تمتلكها للحدّ من إخفاقاتها العسكرية، وإجبار أوكرانيا على التخلي عن طموحها باستعادة السيطرة على الشرق والتوقف عن استهداف شبه جزيرة القرم.
حقيقة، إنّ تعليق مشاركة روسيا في اتفاقية الحبوب جاء قبل أقل من ثلاثة أسابيع على انتهاء مدة الاتفاقية، وفي ظل مساعٍ تقودها تركيا والأمم المتحدة لتجديد الصفقة أربعة أشهر إضافية، تُشير أيضاً إلى أن موسكو تستثمر الوضع العسكري غير الملائم لها، من أجل قطع الطريق على فرص تمديد الاتفاقية بالشكل الذي كانت عليه. الآن، لم يعد ممكناً الحديث أن استجابة الغرب للمطالب الروسية السابقة بتخفيف العقوبات وإزالة العقبات أمام تصدير منتجاتها عبر البحر الأسود كافية وحدها لحمل روسيا على قبول تجديد الاتفاقية. لدى روسيا نمط من الانتقام من الضربات على القرم، وبرز بعد انفجار جسر مضيق كيرتش بين البر الرئيسي لروسيا والجزيرة على شكل توجيه ضربات صاروخية للعاصمة كييف واستهداف شبكة الكهرباء. لكنّه بعد الهجوم على الأسطول الروسي في القرم، فإن موسكو تلجأ إلى استخدام اتفاقية الحبوب أيضاً في إطار صراعها مع كييف والغرب... يحتاج بوتين إلى نفوذ بينما تسير الأمور بشكل معاكس في ساحات القتال.