في دواعي الموقف الفرنسي المستجدّ من الصحراء

08 اغسطس 2024
+ الخط -

خرجت فرنسا من دائرة غموض تقوقعت فيها 17 عاماً، بعد إعلان الرئيس إيمانويل ماكرون دعم بلاده مخطّط الحكم الذاتي، الذي طرحه المغرب حلّاً لقضية الصحراء، في رسالة خطّية بعثها إلى عاهل المغرب، محمد السادس، بمناسبة الذكرى الـ25 لعيد العرش؛ "دعمنا مخطط الحكم الذاتي الذي تقدّم به المغرب في 2007 واضح وثابت". وقطعت دابر تردّدٍ دام ثلاث سنوات، بتأكيدها أنّ "حاضر الصحراء ومستقبلها يندرجان في إطار السيادة المغربية"، مضيفةً أنّ هذا المخطط "يُشكّل، من الآن فصاعداً، الأساس الوحيد للتوصّل إلى حلّ سياسيّ، عادلٍ ومستدامٍ، ومُتفاوَضٍ بشأنه، طبقاً لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة".
يبدو أنّ فرنسا أدركت أخيراً أنّ المغرب، ومنذ الخطاب الملكي في 20 أغسطس/ آب 2022، قد حدّد، وبصرامة، خطوطَ سياسته الخارجية، بعد قول الملك محمد السادس إنّ "ملفّ الصحراء هو النظّارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم"، وإنّها "المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات"، ما جعلها تعرض عن الحيرة والارتباك، لصالح الانضمام إلى قائمة الدول الكبرى التي عبّرت عن تأييد المخطّط المغربي؛ بدءاً بالولايات المتّحدة عام 2020، ثمّ ألمانيا مطلع عام 2022، تبعتها إسبانيا، المُستعمِرَة السابقة للصحراء، في مارس/ آذار 2022. ومن بعدها هولندا في مايو/ أيّار 2022، ثمّ بلجيكا في أكتوبر/ تشرين الأول 2022.

كان الانقلاب في الموقف الفرنسي مثيراً، سيّما أنّه جاء بلا مُقدّمات أولية، وفي صيغة رسالة مكتوبة فقط.

يبقى اللافِتُ الاعتراف الفرنسي، مقارنةً ببقية الدول الأوروبية باستثناء إسبانيا، إذ إنّه يصدُر عن دولة ذات إرثٍ تاريخيٍّ ثقيل في المنطقة، فهي من صنعت خرائطها بشكل عشوائي، قبل الرحيل عنها في ستينيّات القرن الماضي. كما أن توقيته محلَّ إثارةٍ ولبسٍ أيضاً، فقد ظهر عقب سلسلة أزمات عميقة بين الرباط وباريس، في آخر سنوات، بدأت مع تهم التجسّس ببرنامج بيغاسوس، فمشكلة القيود على التأشيرات المغاربة، ثمّ رفض المساعدة الفرنسية في كارثة زلزال الحوز، ما أصاب العلاقات بين الطرفَين بجمودٍ وجفاءٍ غير مسبوقَين.
كان الانقلاب في الموقف الفرنسي مثيراً بالنسبة لمراقبين كثيرين، سيّما أنّه جاء (بحسب هؤلاء) بلا مُقدّمات أولية، وفي صيغة رسالة مكتوبة فقط، فيما الحدث يستدعي "تسويقاً" أكبر، نظراً إلى ما يكتسيه من أهمية للطرفَين معاً. صحيح أنّ الإشارات، من هنا وهناك، لم تكن كافيةً للدلالة على تغييرٍ وشيكٍ في الموقف الفرنسي، متى أخذنا بالاعتبار عمق الشرخ في العلاقات بين الجانبَين، لكنّها تواترت على أكثر من لسان. أخيراً، في شهر فبراير/ شباط الماضي، قال السفير الفرنسي كريستوف لوكورتييه في محاضرة عن آفاق العلاقات بين البلدَين إنّ من "الوهم وعدم الاحترام الاعتقاد بأنّه بإمكاننا بناء مستقبل مشترك مع المغرب من دون توضيح موقف من مسألة الصحراء". وقبل ذلك، اعتبر وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيغورني، في زيارته المغرب، فيما يشبه التمهيد للموقف الجديد، "الصحراء قضية وجودية بالنسبة للمغرب، وفرنسا تعرف ذلك. لقد حان الوقت الآن للمضي إلى الأمام".
كما اختلفت التفسيرات في معرض تبيان الدواعي وراء الوضوح الفرنسي من قضية الصحراء، فهناك من يربط الأمر بتقلّبات المشهد السياسي الفرنسي، وتحديداً الرسالة الموقَّعة من 93 شخصية سياسية فرنسية، تحرّكها قوى اليمين المُتطرّف، وتدعو ماكرون إلى تطبيعٍ سريعٍ وشاملٍ مع المغرب. فيما يرى آخرون القرار خطوةً استباقيةً من الرئيس الفرنسي، قبل تسليم مقاليد الحكومة لليسار، المعروف بالانحياز لأطروحة تصفية الاستعمار. فيما تُرجِّح سرديةٌ أخرى أن تكون المسألةُ وثيقةَ الصلة بالسياسة الخارجية، بعد فشل المساعي الفرنسية في الرقي بعلاقاتها مع الجزائر، التي ترفض طيَّ ملف الجرائم الكولونيالية منجهة، بإصرارها على الإنصاف والاعتذار والتعويض وغيرها من مطالب ترى باريس في التعاطي معها إيذانا بموجة كُبرى من مختلف ربوع أفريقيا، وتمعن، من جهة أخرى، في تهميش فرنسا شريكاً اقتصادياً وسياسياً، بتقديمها روما ثمّ برلين بدلاً من باريس، ناهيك عن تنامي موجة معاداة اللغة الفرنسية داخل الدولة الجزائرية، بالسعي نحو استبدال اللغة الإنكليزية بها. وفي تفسير مثير للموقف الفرنسي، تحدثت مديرة معهد دراسات العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس، ليزلي فارين، صاحبة كتاب "إيمانويل ماكرون في منطقة الساحل: رحلة الهزيمة" (2024)، عن فرضية وقوف إسرائيل وراء ذلك، غير مُستبعِدَة ضغطها على باريس للقيام بهذه الخطوة، من أجل مصالحها المرتبطة بمسألة التطبيع.
أيّاً تكن الدوافع وراء هذا الموقف، تلزم الإشارة إلى أنّ فرنسا اتّخذته في سياق داخلي مُضطرب، فقصر الإليزيه، رغم أنّه بلا حكومة منذ مطلع شهر يونيو/ حزيران، يُصرُّ على اتخاذ قرارات لها تداعيات كُبرى على البلد، فالموقف الفرنسي الجديد، كما اتضح في متن الرسالة، يدشّن مساراً جديداً في تأييد فرنسا مُقترَح الحكم الذاتي، بانتقاله من مُجرَّد الدعم إلى الدعم في إطار السيادة المغربية، مع ما يعنيه ذلك من تبعات بإعلان ممثّل فرنسا الدائم في مجلس الأمن، عبر مُذكِّرة إلى الأعضاء كافّة، التحوّل في موقف الدولة الفرنسية، التي ترى أنّ "حاضر الصحراء ومستقبلها يندرجان في إطار السيادة المغربية".
من شأن الانحياز الفرنسي للمبادرة المغربية أن يضيف أزمةً جديدةً إلى قائمة الأزمات المتوقِّدة بين باريس الجزائر، لا سيّما أنّ الأخيرة سارعت إلى إصدار بيان تنديد بالموقف الفرنسي بمُجرَّد الإحاطة به، وحتّى قبل أن تكشفه باريس بشكل رسمي. أعقب ذلك سحبٌ للسفير الجزائري من باريس، وتخفيضٌ للتمثيل الدبلوماسي إلى مستوى القائم بالأعمال، مع التحذير من خطوات أخرى تصعيدية في المستقبل، مثل حرمان الشركات الفرنسية من الأسواق الجزائرية، كما حدث سابقاً مع إسبانيا، على خلفية دعمها مخطَّط الحكم الذاتي عام 2022.

الانحياز الفرنسي للمبادرة المغربية بشأن الصحراء سيضيف أزمةً جديدةً إلى قائمة الأزمات المتوقِّدة بين باريس الجزائر

مدريد مُستفيدة من الموقف الفرنسي، فانضمام باريس إلى لائحة المُؤيِّدين للحكم الذاتي يمنح حكومة زعيم الاشتراكيين بيدرو سانشيز (راجع مقال الكاتب: "بيدرو سانشيز رجل دولة يبحث عن مجد"، "العربي الجديد"، 2024/01/09) شعبيةً أكبرَ في الداخل الإسباني، لأسبقيتها في اتّخاد قرارٍ بعوائدَ اقتصادية مُهمّة، تأخّرت فرنسا، ثاني قوّة في الاتحاد الأوروبي، والعضو الدائم في مجلس الأمن، سنتين وأربعة أشهر قبل الإقدام عليه.
التأييد الفرنسي للمبادرة المغربية لا يعني حسماً نهائياً لواحد من أقدم النزاعات في أفريقيا، فالملفّ لا يرتبط بباريس وحدها، ولا حتّى بمحور بعينه، والقصد هنا المعسكر الغربي، الذي تُسخِّر الدبلوماسية المغربية جهودها كافّة قصد اختراقه، بل ثمّة جبهات أخرى (الصين وروسيا) تتطلّب مجهوداً دبلوماسياً لإقناعها بدعم المشروع المغربي، أو في الأقلّ ضمان بقائها على الحياد عند طرح القضية داخل هيئات الأمم المتّحدة.

E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري