في حدود التقارب التركي الإماراتي وآفاقه
عندما زار مستشار الأمن القومي الإماراتي، طحنون بن زايد، أنقرة في أغسطس/ آب الماضي، بدأت الإمارات وتركيا خطواتهما المُعلنة لطي صفحة عقد من التنافس الحادّ على إعادة تشكيل المنطقة في حقبة ما بعد الربيع العربي. كان إخراج مساعي إصلاح العلاقات إلى العلن ثمرة فترة من التهدئة السياسية بين البلدين، والتي جاءت في خضم خفض تصعيد إقليمي على نطاق واسع. كانت أنقرة وأبوظبي فاعلتين رئيسيتين في الديناميكية السياسية الجديدة التي ظهرت في المنطقة مطلع العام الماضي. لم يكن ذلك مفاجئاً، بسبب أن البلدين انخرطا بفعالية في الصراعات الإقليمية خلال السنوات العشر الماضية، وهو ما جعلهما أكثر عرضةً للتحوّلات التي طرأت على الوضع الإقليمي، وأكثر حاجة للتكيف السريع معها من خلال تبنّي سياسات جديدة.
توفّر البرغماتية ضروري في عملية التحول في السياسات الخارجية للدول، عندما تتغيّر الظروف المُشكّلة لها. في حالة تركيا والإمارات، يبرز التحوّل بشكل حاد للغاية، وفي فترة سريعة، بفعل متغيرات إقليمية عديدة نضجت تدريجياً خلال السنوات الماضية. لكنّ أكثرها أهمية تمثل بالتحول الذي شهدته السياسة الأميركية في المنطقة بعد مجيء إدارة بايدن، والذي انعكس بشكل حادّ على السياسات الإقليمية لتركيا ودول الخليج، كونها شريكة رئيسية للولايات المتحدة.
لعبت المتغيرات الإقليمية دوراً حاسماً في دفع تركيا والإمارات إلى اتجاهٍ متناقض تماماً مع ما كانت عليه علاقاتهما وسياساتهما الإقليمية خلال العقد الماضي
لعبت هذه المتغيرات دوراً حاسماً في دفع تركيا والإمارات إلى اتجاهٍ متناقض تماماً مع ما كانت عليه علاقاتهما وسياساتهما الإقليمية خلال العقد الماضي. بعد اندلاع الربيع العربي، دعمت تركيا صعود الإسلام السياسي في بعض دول المنطقة مقابل تبني الإمارات سياسةً معاديةً له. سُرعان ما أخذت الاختلافات الأيديولوجية بينهما أبعاداً أكثر حدّة مع انخراط أبوظبي في تحالف مع القاهرة والرياض والمنامة لإضعاف السياسة التركية في المنطقة، فقد تبنّت الإمارات موقفاً معادياً بشدّة للدور العسكري التركي في سورية والعراق. كما كان أحد الدوافع الرئيسية لمقاطعة قطر من الرباعي العربي فكّ الشراكة التركية القطرية. ثم جاءت اتفاقيات أبراهام التي أبرمتها الإمارات والبحرين مع إسرائيل لتعمّق من الخلاف مع تركيا، وصولاً إلى انخراط القاهرة وأبوظبي في حربٍ بالوكالة مع أنقرة في ليبيا. وعلى الرغم من أن تركيا برّرت موقفها من الربيع العربي بدعم التحولات التي أفرزتها صناديق الاقتراع في الدول التي تأثّرت بهذا الربيع، فإن الإمارات وشركاءها نظروا إلى هذا الموقف مشروعا تركيا يسعى، بالتعاون مع الإخوان المسلمين، إلى إضعاف أنظمة الحكم العربية، لا سيما الخليجية منها. ساهمت الانتكاسة التي تعرّضت لها الجماعة في مصر بعد إطاحة حكم الرئيس محمد مرسي، ثم ضعف حركة النهضة في تونس، إلى جانب خروج حزب العدالة والتنمية المغربي من السلطة، في إحداث تغيير جذري في مقاربة تركيا علاقتها بالإسلام السياسي.
بدأ هذا التغيير يظهر بوضوح، عندما تجنّبت أنقرة صراحة معارضة قرار الرئيس التونسي، قيس سعيّد، تجميد عمل البرلمان الذي تُهيمن عليه حركة النهضة، ثم تقييد نشاط وسائل الإعلام التابعة للإخوان المسلمين في إسطنبول بادرة حسن نية تجاه القاهرة. كان المنطق السياسي لهذا التوجه يقوم على أن المكاسب التي جنتها تركيا من علاقتها بالإخوان المسلمين أقل بكثير من الأضرار التي تكبّدتها على صعيد تضرّر علاقاتها مع القوى الفاعلة في المنطقة، وأن العودة إلى العلاقات التقليدية مع هذه القوى ستحدّ من تلك الخسائر. علاوة على ذلك، سعت أنقرة من خلال الدخول في مفاوضات مع القاهرة وتل أبيب إلى إضعاف مشروع عزلها في صراع شرق المتوسط. كما تأمل أن يؤدّي التقارب مع الإمارات والسعودية إلى إنهاء الضرر الذي لحق بتجارتها مع دول المنطقة، وأدى إلى تفاقم صعوباتٍ يواجهها الاقتصاد التركي منذ سنوات. في المقابل، ساهم تراجع الإسلام السياسي وتحوّل الأزمات التي تنافست فيها تركيا والإمارات إلى صراع استنزاف طويل، فضلاً عن بروز تحدّيات إضافية، كتداعيات وباء كورونا، في دفع أنقرة وأبوظبي إلى التخلي عن العداوة السابقة. يُضاف إلى ذلك أن نجاح تركيا في تدخلها العسكري في ليبيا وتصاعد دورها في أفريقيا وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى لعب دوراً مهماً في تغيير مقاربة الإمارات لتركيا.
لن تتكشف معالم العلاقة الجديدة بين تركيا والإمارات، بصورة نهائية، قبل وضوح خريطة التحالفات الجديدة التي تتشكل في الإقليم
في الوقت الراهن، يتركّز التقارب التركي الإماراتي على التعاون في مجالات الاقتصاد والتجارة، كونها الجانب الأكثر أهمية بالنسبة للرئيس التركي، أردوغان، الذي يقترب من انتخابات حاسمة منتصف العام المقبل، ويسعى إلى إعطاء دفعة قوية لخطته الاقتصادية. كما أنها الورقة الأكثر فعالية التي تمتلكها الإمارات لبناء علاقات جديدة مع تركيا. بالنّظر إلى أن البلدين كانا على خلافٍ في كثير من قضايا المنطقة، فإن من الصعب تفسير ازدهار العلاقات الاقتصادية والتجارية بينهما على نحو مذهل، بمعزل عن اختلاف مقاربتهما الإقليمية. فتحت زيارة أردوغان للإمارات منتصف فبراير/ شباط الجاري نقاشاً حول هذا الجانب، فقد تحدّث صراحة عن رغبة بلاده في تطوير العلاقات مع الإمارات إلى تعاون على المستوى الإقليمي وربط أمن تركيا بأمن منطقة الخليج، بينما قال ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، إن الإمارات حريصة على التعاون مع تركيا لمواجهة التحدّيات المشتركة في المنطقة، عبر الحوار والتفاهم والحلول الدبلوماسية. مع الأخذ بالاعتبار أنه كان للأزمة بين تركيا والإمارات تداعيات كبيرة على العلاقات بينهما، فإن البلدين قرّرا التركيز، في الوقت الراهن، على التعاون في الجوانب الاقتصادية والتجارية والحفاظ على تهدئة خطابهما الإقليمي، تمهيداً للشروع في البحث عن مقاربة مشتركة في قضايا المنطقة.
مع اعتبار أن تركيا والإمارات من بين القوى الإقليمية التي تسعى إلى التخفيف من عسكرة سياساتها الإقليمية والتفرّغ للتحديات الاقتصادية والجيوسياسية المستجدّة، فإن الطريق باتت سالكةً نحو تطوير العلاقات الاقتصادية بينهما إلى شراكةٍ على المستويين، السياسي والأمني. نظراً إلى أن التوترات السابقة تمثلت في المنافسة الأيديولوجية، والتي لم تعد ذات تأثير كبير في الوضع الإقليمي الجديد، فإنه لا يوجد سبب للاعتقاد بأن المصالحة التركية الإماراتية ظرفية. يُضاف إلى ذلك أن تركيا والإمارات شريكان تقليديان للولايات المتحدة، والتقارب بينهما يُساعد واشنطن التي تسعى إلى ضمان أن حلفاءها في المنطقة قادرون على ملء الفراغ الذي يتركه انسحاب اهتماماتها إلى مناطق أخرى في العالم. في غضون ذلك، تطمح تركيا إلى الدخول في المنافسة على سوق تصدير الأسلحة إلى منطقة الخليج، بعد النجاحات الكبيرة التي حققتها صناعاتها الدفاعية، لا سيما الطائرات المسيّرة بدون طيار في عدد من مناطق الصراع، كسورية وليبيا وأذربيجان. يُبدي الإماراتيون اهتماماً بالغاً بهذه الصناعات، وقد أرسلوا، أخيرا، وفداً إلى أنقرة للقاء ممثلين عن شركات تصنيع الأسلحة التركية.
يُدرك أردوغان أن تعميق الشراكة مع الإمارات لا يُمكن أن ينجح من دون معالجة مشكلات أنقرة مع إسرائيل والسعودية ومصر
خلال زيارة وزير الخارجية التركي، جاووش أوغلو، للمنامة نهاية الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، استعرض أمام الصحافيين ميزات الأسلحة التركية، وأعرب عن استعداد بلاده للتعاون مع دول الخليج، لتلبية احتياجاتها الأمنية. وعلى الرغم من أن مثل هذا التعاون قد يجرّ تركيا إلى الانخراط غير المباشر في صراعات جديدة كاليمن، ويُعرض علاقتها مع إيران للخطر، إلّا أن المسؤولين الأتراك يعتقدون أن التحوّلات التاريخية التي تمر بها منطقة الخليج مع تراجع الدور الأميركي، وتنافس قوى عالمية أخرى على الاستفادة من هذا التراجع، كفرنسا والصين وروسيا، تُشكل فرصة لتركيا لتوسيع نطاق تأثيرها في خريطة الجغرافيا السياسية الإقليمية. علاوة على ذلك، يبرز القلق المشترك من النفوذ الإيراني في المنطقة كأحد العوامل المُساعدة في دفع تركيا والإمارات إلى المضي في هذه الشراكة، فمع اقتراب المفاوضات بين طهران والغرب من التوصل إلى صفقة نووية، فإن هذه الصفقة ستزيد من الضغوط على دول الخليج التي تتخوّف من أن تُساعد إيران في تعزيز حضورها الإقليمي. تنظر الإمارات إلى الشراكة مع تركيا على أنها وسيلة تحوّط ملحّة في المرحلة المقبلة. وبالنسبة لأنقرة، فإن حاجة الخليج لها لإحداث توازن مع إيران تُساعدها في لعب دورٍ أكثر فعالية في منطقة الخليج.
يُدرك أردوغان أن تعميق الشراكة مع الإمارات لا يُمكن أن ينجح من دون معالجة مشكلات أنقرة مع إسرائيل والسعودية ومصر. مع ذلك، يمكن أن تساعد إعادة تأهيل العلاقات بين أنقرة وأبوظبي تركيا على فتح طرق إلى تل أبيب والقاهرة والرياض. على صعيد آخر، تبرز الشراكة القوية التي أقامتها تركيا وقطر خلال العقد الماضي كأحد التحديات التي تواجه أنقرة في بلورة نهج شامل لعلاقتها مع منطقة الخليج تحديدا، فالتنافس بين الدوحة وأبوظبي على النفوذ الإقليمي سيبقى قائما، على الرغم من المصالحة الخليجية. وتفيد زيارة أردوغان قطر نهاية العام الماضي بعد إبرام المصالحة مع الإمارات بأن الشراكة التي تسعى أنقرة إلى إقامتها مع أبوظبي، وربما الرياض والقاهرة في مرحلة لاحقة، لن تكون بديلاً عن علاقاتها الاستراتيجية بقطر، بل فرصة لتعميم هذا النموذج على باقي دول المنطقة.
أخيراً، لن تتكشف معالم العلاقة الجديدة بين تركيا والإمارات، بصورة نهائية، قبل وضوح خريطة التحالفات الجديدة التي تتشكل في الإقليم.